كثرة المساس تُبلد الإحساس، مقولة تؤكد أن وفرة النعمّة تولد ازدراءها، ابتذالها والتعامل معها بعدم تقدير.
وعلى المنوال ذاته يقال "أزهد الناس في العالم أهله وجيرانه"، "زمار الحي لا يطرب"، "الشيخ البعيد سره باتع" و"كل نبي في وطنه مهان".
حتى الشاعر أنشد:
لا عيب لي غير أني من ديارهم.. وزامر الحي لا تشجي مزامره
كذلك يقول المثل الفرنجي:
The grass is greener on the other side
ولأهل الخليج مقولة: "عنزة الفريج ما تحب إلا التيس الغريب".
وقد روي أن والدة "الإمام أبو حنيفة" كانت تثق بتلميذ إبنها "عمر بن ذر" وتزهد بعلم إبنها الإمام، فتطلب من "أبو حنيفة" أن يأخذها لمجلس "بن ذر" لتستفتيه، فيفعل، ويذهب وهو الإمام ليستفتي تلميذه في قضية هو أعلم بها منه فيندهش التلميذ: "كيف تستفتني وأنت الإمام؟.. فيقول:"إرضاءً لأمي".
وقد ورد عن د. مصطفى محمود ما مفاده أن: "النفس لا تزداد شبعًا، بل جوعًا، كما تزداد خواء، لا امتلاءً".
واعتقد أن هذا الجوع مشروط بالتنوع، فتعطش النفس للتكاثر يكون مشروطًا بتجربة المختلف مع الزهد في المألوف وهجر ما بقبضة اليد والتطلع لحوزة المحرم بيد الآخرين، سيما لأن الفاكهة المحرمة أحلى كما أكد المثل الإنجليزي، ولربما أوافق الغرب في وجود علاقة عكسية بين الوفرة والقيمة.
Scarcity is related to value
وللدكتور مصطفى مقال مميز بعنوان "أسرار الشعور" يوضح فيه أسباب تبدل مشاعر الزوج تجاه قرينته فيقول: "زوجتك تحس بها وأنت تشرع بالزواج منها أو بفترة التعارف، أما إن تزوجتها ولبستها "كالفانلة" وأحاطت بصدرك وذراعيك، فستنسى الشعور بها، حتى تصبح كقطعة أثاث بالبيت، تدخل يوميًا لتجدها بمكانها، كالمنظر، تطل عليه من شرفتك يثيرك للمرة الأولى، ثم يصبح عاديًا، ثم تنساه تمامًا، وتظل المرأة منسية كفانلة، حتى يأتى الطلاق، فإن خلعتها كما تخلع فانلتك، ستعود في تلك اللحظة تحديدًا للشعور بها بعنف وقد ترتجف لفراقها".
فما السر في فتور مشاعر البشر؟
لما يسعى الإنسان لوظيفة، ثم يحصل عليها بل يتضاعف راتبه، فيتضاعف سخطه، سواء للإستيقاظ المبكر، أو للمواصلات وغمارها، أو للزملاء ومؤامراتهم، أو من المديرين وأوامرهم، ثم السعاه ومعايبهم.
لماذا يحلم الفرد بشقة صغيرة بالإيجار، فيهديه الله بيتًا واسعًا، ملكًا له، فيسعد أول شهر، ثم يتناسى النعمة ويعاود التذمر والسخط ويعلن أن أسعد أيامه كانت سنوات إقامته في غرفة بالإيجار!
كيف يمضي الطالب سنوات بمدرسته ساخطًا ثم ما إن يتخرج، حتى يشتاق لصفوف الدراسة ومراتع الطفولة وجلسات الفصل ومسطرة الأستاذ وشدة الأذن وأجراس الفسح والرحلات، ويعظم الأقسام أن ما أحب أحد كما أحب الأتراب، ويقسم بالأيام الخوالي، على أنها - حينها- كانت ثقيلة، مبلدة بالحفظ والواجبات والمسائل والإمتحانات، لكنه ينسى السلبيات ولا تبقى سوى سكاكر الذكرى!
فلماذا نتعلق بذكريات مضت ونهجر الحاضر؟
ولما تنطفئ شعلة قلبين كان يرومان القران، وبعد الزواج، تقسو المشاعر، وتموت العلاقة بالعادة، أما لو انفصلا، عضّا أصابع الندم الخنصر، البنصر، السبابة والإبهام؟
لماذا يهمل الزوج شريكته طوال الحياة، فإن رحلت، إنهار، ورثاها بدمع سخيّ ونشر على وسائل التواصل من لطيف الكلام، ما لم تسمع منه الفقيدة حرفًا، بل وقد ينحل عليها ميزات ما لبستها ساعة؟
قابلت بصباى أديبًا شهيرًأ وقرينته، ففتنت لجمالها، الذي يناطح حسن الفنانة "ليلى فوزي"، لكنه كان يتحرى تهميشها أمام الناس، ثم رثاها عقب وفاتها بمفردات نادرة.
وصف في المقال وجهها، صوتها، أناقتها، نسبها، طبخها وطيبتها، مستخدمًا مفردات "أبهة، فخامة وعلياء".
أما وهي معه، فكان فنانًا في تحقيرها على الملأ.
بحسب دكتور محمود، فالسر يكمن بكيمياء الأعصاب التي تشعر بلحظات التحول والإنتقال بينما لا تنتبه لأوقات الإستمرار.
فلن تشعر بصحتك الجيدة سوى ساعة المرض كما لن تشعر إلا بالعضو المنهك، فظهرك بخير لو لم تشعر بفقراته، أما لو سمعت صوت الفقرات، فثمة ألم يطنّ!
- تتجول بحوانيت العطور، فتتملكك نشوة لا تستمر سوى لحيظات، ثم تعدم الإحساس بتلك الرائحة مهما كان ثمن العطر.
- تحلق بالطائرة، فتشعر بثواني الإقلاع والهبوط، لكنك تفقد الشعور بطول سلامة الرحلة إلا ساعة حدوث مطبات هوائية.
- وأنت بالمصعد، تشعر بلحظات الهبوط والصعود، أما باقي الوقت فلا تشعر بشيء لأن حركته مستمرة وسالمة.
- تحيا عمرًا طويلًا، منعمًا، لكنك تؤكد أن نصيبك من الدنيا لم يكن سوى إبنك، فهو المكسب الوحيد بحياتك.
تنسى دارك، جارك، بيتك، وظيفتك، راتبك، زيجتك، عائلتك، معارفك، وطنك، تنسى الأمن، الصحة، المال، الأرض، الملابس، السفرات، المطاعم، المشاهدات، الضحكات، المسرات والقبول ولا تذكر سوى المآسي، ونعمة وحيدة هي ولدك.
تعسًا للكنود!
يشكو شقاوة صغاره، كلفة دراستهم ومصروفاتهم بل وقد يبطش بهم طغيانًا، فلا طاقة له بمشاكلهم!.. "تعبوني، الله يحرقهم، في ألف داهية".
فإن مات واحد من أصل خمسة، فأطفال الدنيا ذكرانًا وإناثًا لا يعوضون أنفاس الفقيد، مشيته، نبرات صوته، لثغته، مزاحه، دمعه ومراحه وحلو صراخه.
يشرع بذكر غمراته وقبلاته لحلوى طلبها منه.
وكيف طار طربًا لأول دراجة أهداه إياه.
ويوم جاءه مطأطأ الرأس معتذرًا عن علاماته الضحلة.
ثم يعض على أصابع الندم حين يذكر كيف حباه بأول سر.
كما يدوي في أذنيه صخبه كحلا للكون يوم علمه قيادة الدراجة.
ويتراءى له برق عينيه ليلة أسره أن الأسرة ستقضي الصيف بايطاليا.
ويلعن نفسه حين قسى عليه. وتدمع عينيه إذا ما استرجع مشهد دخوله عليه بمخدعه، فإذا بطفل الأمس يضع يده يستر بها عورته، ويطلب منه بحسم طرق الباب قبل الدخول، إذن، فقد فقده بعد أن شبّ واستوى.
وتراه يترك مخدعه بذات الشكل الغير منظم الذي تركه عليه يوم وفاته، وكم كان يثور في السابق لفوضاها، ثم يرفض غسل ملاءته فهي تحمل لزاجه وشذى أنفاسه وبصمات وجوده في الدنيا.
وأخيرًا، يعترف أن كنوز العالم بما فيها باقي أبنائه لا تعوض فقدانه لإبنه الذي رحل.
أكان يحب الصغير أم قدّر المفقود لا الموجود؟
لشوقي بيت رائع: وهل الأذن بعد العين ترى..أم هل العين بعد الأذن تسمع؟
فلا بديل لعزيز عن الغالي..ولا وليد يعوض إبنًا مات.
فالديمومة ماحية للشعور لأن أعصابنا تعجز بطبيعتها عن الإحساس بالمنبهات الدائمة، كما كتب د. مصطفى محمود الذي يعتقد أننا مصنعون من الفناء، لذا، لا نقيم الأشياء إلا وقت فنائها.
أما أنا فأضيف: إننا نشعر بها لُحيظة اقتنائها أيضًا.
والعجيب أننا نطلب بالبركة مع جهلنا لمعناها، فالبركة تعني دوام النعم وأصلها "برك الجمل"، فللجمل جسد ضخم، حمول، فحين يبرك يجلس أمدًا باركًا على الأرض للراحة قبل معاودة القيام.
فنحن ندعو أن تَبرُك نعم الله لدينا ولا ترحل، فيما لا يعرف شيء يقيد النعم أكثر من الشكر، كما لم يعرف شيء طارد لها سوى التذمر: "قيدوا النعم بالشكر".
ولن أنسى كلمة "ماثيو ماك جانهانت": "العرفان يعود" Gratitude reciprocates
فندر من يقيم الأشياء والأشخاص قُبيل الفقد.
ندر من تأمل فنجال الشاي فلمح جمال الاستكانة وتلذذ بمذاقه وأدرك أنه وهب القدرة على استساغته، ففهم معنى "مطرح ما يسري يمري" ومطرح ما تمنح النعمة تدوم تهنأ بديمومتها.
لماذا؟
للإعتياد عليها، فالبعض يحسب أن النعمة تكمن في الإستزادة من المفقود، بينما هي في بقاء الموجود.
ندر من يثمنون ثرواتهم قبيل أن تفر من بين حساباتهم وأندر منهم من ينعمون بأحبتهم قُبيل الطلاق.
حتى مع الله، لا نُشعره بحاجتنا له، إلا عند البلاء:
"وإذَا مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا، فلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ، مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ، كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ".
وصدق الشاعر:
يطلب الإنسان في الصيف الشتا..فإذا ما جاء الشتا أنكره
ليس يرضي المرء حالًا واحد.. قتل الإنسان ما أكفره
والأمل في الإستثناءات التي تثبت القاعدة ولا تنفيها.