صعود تيارات الصهيونية الدينية المتطرفة فى إسرائيل يضع منطقة الشرق الأوسط كلها على حافة بركان. هذه التيارات لا تمثل تهديدًا للفلسطينيين فقط، بل تهدد استقرار المنطقة، وتخلق انقسامًا سياسيًا عميقا فى إسرائيل بين قوى يمينية متطرفة تسعى لفرض ديكتاتورية دينية فى مقابل قوى سياسية مدنية، تتسع لتيارات الوسط واليسار واليمين.
وبعد أن سيطر اليسار الصهيونى على ما يقرب من نصف قرن من تاريخ إسرائيل السياسي، فإن العقود الأخيرة شهدت بداية صعود اليمين بقيادة حزب الليكود الذى قاده مناحم بيجن إلى الحكم لأول مرة عام ١٩٧٧. سيطرة الليكود مهدت الطريق لصعود القوى الدينية المتطرفة مثل (العزيمة اليهودية - Otzma Yehudit) و(الصهيونية الدينية - Religious Zionism) إلى جانب كل من حزب (شاس - Shas) الدينى المتشدد، وحزب (التوراة اليهودية الموحدة - United Torah Judaism) وهو حزب دينى متشدد أيضا. فى نوفمبر ٢٠٢٢ لم يتمكن نتنياهو من تشكيل حكومته الجديدة قبل أن يحصل على تأييد الحزبين الدينيين المتشددين وثلاث جماعات يمينية متطرفة. ولمنح نتنياهو تأييدها فقد وضعت هذه القوى شروطا تضمن لها سلطات واسعة، فى مجالات الأمن القومى والاستيطان والأمن الداخلى والمالية ووظائف جديدة تتعلق بتربية المجتمع وتشكيل الهوية. ويمثل صعود اليمين الدينى المتطرف تغييرا جوهريا فى قواعد اللعبة السياسية فى إسرائيل. وإذا استمر تحالف الليكود مع الصهيونية الدينية، فإنه سيكون ثالث أكبر تحول سياسى فى تاريخ الدولة، بعد سيطرة اليمين السياسي، ومن قبله سيطرة اليسار الصهيوني. ومن ناحية علاقته بالقضية الفلسطينية فإنه قد يشهد إسدال الستار نهائيا على فكرة «حل الدولتين»، مما يتطلب من الفلسطينيين إعادة التفكير فى خياراتهم السياسية المستقبلية فى حال سقوط حل الدولتين، رغم أن الضفة الغربية يسكنها ٦٠٠ ألف مستوطن فقط بين ٢.٧ مليون من الفلسطينيين. قضية الدولة تتعلق أساسًا بالسيارة على الأرض، وتزعم إسرائيل أن السيادة لها، زمنيا باعتبارها الوريث للدولة العثمانية، ودينيا على اعتبار أن الضفة الغربية «يهودا والسامرة» هى أرض اليهود الموعودة طبقا للنصوص التوراتية.
ومن ثم فإنها ترفض اعتبار الضفة أرضا محتلة. اختبار لقوى السلام والديمقراطية مع انتقال محور القوة السياسية ناحية اليمين الصهيونى الديني، يتولى وزراء متطرفون مسئوليات رئيسية فى حكومة نتنياهو، أهمهم وزير المالية بتسلئيل سموتريتش (Bezalel Smotrich)، ووزير الأمن القومى إيتمار بن غفير (Itamar Ben Gvir). ويتمتع كل منهما بسلطات واسعة فى مجالات الأمن الداخلى والاستيطان وإدارة شئون الضفة الغربية المحتلة ومناطق التنمية الجديدة فى الجليل شمالا والنقب جنوبا.
بينما أبطلت المحكمة العليا تعيين آرييه درعى زعيم شاس وزيرًا فى الحكومة (للداخلية والصحة) لإدانته سابقا فى قضايا جنائية. وتتبنى قوى الصهيونية الدينية المتطرفة اقتراحات بتطبيق القانون المدنى الإسرائيلى على الضفة الغربية.
كما تعتبر أن الوجود الإسرائيلى والفلسطينى ينفى كل منهما الآخر. ومن ثم يجب تحويل حياة الفلسطينيين فى الضفة الغربية إلى جحيم يومي. وفى المقابل فإن التيارات الإسلامية المتطرفة تعتبر الوجود الفلسطينى نافيا للوجود الإسرائيلي؛ أى أن كلًا منهما تمثل الصورة السياسية المقابلة للأخرى. وهما نتاج قرن من الصراع الممتد منذ الاستيطان المنظم فى عهد (هربرت صموئيل) المندوب السامى البريطانى الأول فى فلسطين (١٩٢٠- ١٩٢٥)، سيطرت عليه أفكار قومية ودينية، رفضت فكرة التعايش، ولجأت بدلا من ذلك للعنف. وعلى الرغم من سيطرة الحركات والأحزاب اليسارية على الحياة السياسية حتى أواخر سبعينيات القرن الماضي، فإن تلك المرحلة لم تكن أبدا مرحلة سلام، حيث وقعت فيها أربع حروب كبرى فى أعوام ١٩٤٨، ١٩٥٦، ١٩٦٧ و١٩٧٣، زادت نتائجها من حدة الصراع بين الحركتين القومية العربية والصهيونية السياسية. وكان من أهم نتائج فشل الحركة القومية العربية فى حل الصراع، بروز قوة التيارات الإسلامية بعد هزيمة يونيو ١٩٦٧ بدءًا بمصر، وظهور القوة الفلسطينية المستقلة، ممثلة فى منظمة التحرير الفلسطينية والتنظيمات الراديكالية المسلحة والجماعات الإسلامية المتطرفة. فى السنوات الأخيرة يتزايد نفوذ حركة المقاومة الإسلامية (حماس) ونفوذ حركة الجهاد الإسلامى داخل قطاع غزة وخارجه، خصوصا فى مخيمات اللاجئين فى الضفة الغربية مثل (جنين) و(الدهيشة) و(بلاطه) ومخيم (شعفاط) فى القدس.
ومن المعروف أن (حماس) و(الجهاد الإسلامي) وسعتا نفوذهما إلى حد كبير فى الضفة الغربية خلال الفترة منذ عام ٢٠١٤ بالتعاون مع إيران، وهو ما يفيد بأن زيادة التطرف والعنف فى ناحية يولد آثارًا مضاعفة فى الناحية الأخرى. وتشير بوادر الانتفاضة الجديدة فى القدس والضفة الغربية إلى ضرورة السعى للتهدئة بسرعة، لأن مخاطر انتشارها تتضمن التصعيد الأعمى للصراع، وسقوط الكثير من الضحايا المدنيين على الجانبين. الأخطر من ذلك بالنسبة للفلسطينيين، أن إسرائيل قررت انتهاز فرصة التوتر لتحقيق مكاسب بالجملة ضد الفلسطينيين الأفراد وممتلكاتهم وأراضيهم وحقوقهم الطبيعية. وطبقا لوزير الدفاع الإسرائيلى (يوآف جالانت - Yoav Gallant) فإن كل «إرهابى» سيكون مصيره «القضاء أو المقبرة». أما من يساعدهم فيقول الوزير «إذا لزم الأمر سنطردهم.. سنهدم بيوتهم.. سنحرمهم من حقوقهم». مكتب رئيس الوزراء بعد مقتل ٧ إسرائيليين فى القدس أصدر بيانا جاء فيه أن «الحكومة ستدعم تسريع إقرار قانون يعزز الردع بفرض ثمن على أولئك المقربين من الإرهابيين»، أى أن العقوبات لا تقتصر على المتهمين بالإرهاب، وإنما يمكن أن تعم أقاربهم وجيرانهم. وقال نتنياهو إن الحكومة ستقرر قريبا خطوات لتعزيز الإستيطان فى «يهودا والسامرة».. «لنوضح للإرهابيين الذين يسعون إلى اقتلاعنا من أرضنا إننا هنا لنبقى». وقال بعد اجتماع الحكومة الأمنية المصغرة فى ٢٨ يناير إن الحكومة «ستسرع فى إصدار تصاريح حمل الأسلحة لآلاف المدنيين الإسرائيليين» وإلغاء بطاقات الهوية الإسرائيلية للفلسطينيين المتعاطفين مع الإرهاب، إضافة إلى الحرمان من حقوق الإقامة والعمل لأقاربهم. وتتطلب دبلوماسية التهدئة العمل على إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الأحداث الأخيرة، ووقف «سياسة العقاب الجماعي» ضد الفلسطينيين، بمن فيهم عائلات المتهمين بممارسة العنف، وإزالة أسباب التوتر والمضايقات اليومية، وإلزام الطرفين بالتزامات متوازنة. الرئيس الفلسطينى محمود عباس أبلغ إدارة بايدن إنه مستعد للقاء نتنياهو، وأن وقف التنسيق الأمنى كان مجرد إجراء جزئى بهدف دفع نتنياهو لكبح التوسع الاستيطاني، وليس وقفا كاملا للعلاقات. وإذا كانت الحركات المدنية والأحزاب السياسية فى إسرائيل قد استشعرت الخطر من صعود الصهيونية الدينية المتطرفة، وبدأت تتحرك ضدها فى الشارع من خلال تظاهرات حاشدة، فإن ذلك يتطلب أيضا نمو حركة مدنية للسلام والديمقراطية تكون معادلًا سياسيًا لها فى المجتمع الفلسطيني. هذا ليس بالأمر السهل فى الضفة الغربية أو غزة، حيث يختلط الفساد بالاستبداد السياسى والتطرف الديني. ومن هنا توجد أهمية لقيام المجتمع الدولى بتعزيز ثقافة التعايش السلمي، من خلال وسائط مؤسسية متنوعة، أكثر تنظيما وفاعلية، وهو ما لا يقل أهمية عن «دبلوماسية إدارة الصراع»، بل إنه يفوقها بمرور الوقت.
ومع إمكان إقامة جسور للتعاون بين حركات للسلام والديمقراطية على الجانبين الفلسطينى والإسرائيلي، فإن هذه الجسور قد تساعد على تخفيف حدة الاستقطاب والتطرف، وفتح قناة لتطوير مفهوم مشترك للتعايش، مع الأخذ فى الاعتبار دروس التعايش القائم فى مدن وأحياء مختلطة داخل إسرائيل. تحدٍ لدبلوماسية السلام العربي- الإسرائيلي إن «دبلوماسية إدارة الصراع»، وإن كان من المحتمل أن تأتى بنتائج إيجابية على المدى القصير، خصوصا على صعيد تحقيق التهدئة، فإنها لا تصلح كاستراتيجية لحل الصراع على المدى الطويل. وهذا ما يفسر فشلها فى تحقيق تقدم يؤدى لتعزيز فرص التعايش السلمى حتى الآن. ولم تنجح اتفاقيات كامب ديفيد، ولا معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية، ولا معاهدة السلام الأردنية - الإسرائيلية، ولن تنجح اتفاقيات التطبيع الجديدة «اتفاقيات أبراهام» فى خلق سلام عربى - إسرائيلي، طالما لم تتشكل ثقافة جديدة للتعايش، وطالما بقى الفلسطينيون بلا وطن، فليس من المنطقى إقناع المواطنين العاديين فى الدول العربية بثقافة التعايش، طالما أن الإسرائيليين إما إنهم يرفضون هذه الثقافة أصلا، أمثال (بن غفير) و(سموتريتش)، أو أنهم يفهمون التعايش باعتباره تمييزًا مستحقا للإسرائيليين على غيرهم، طبقا لقانون «يهودية الدولة».
ثقافة التعايش السلمى لا تتوافق مع نفى وجود الآخر، كما أن مبدأ التعايش لا يتجزأ. وتمثل ثقافة التعايش الضمان الحقيقى للسلام، سواء كان وطن الفلسطينيين إلى جانب الإسرائيليين فى دولة ديمقراطية واحدة، أو كان فى دولة مستقلة تعيش بجانب إسرائيل فى سلام. معلومات عن الكاتب الدكتور إبراهيم نوار خبير اقتصادى له العديد من الكتابات التى توضح بأسلوب السهل الممتنع أبعاد الكثير من القضايا الاقتصادية التى تشغل المتخصص وغير المتخصص، كما يهتم بقضايا المنطقة لما لها من تأثير على مجمل الأوضاع.. تنشر مقالاته عدة صحف ودوريات مصرية وعربية..يحذر، هنا، من خطورة ممارسات الحكومة الإسرائيلية الجديدة التى تضم اليمين واليمين المتطرف وتسعى لطمس الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى، مع كل ما يمثله ذلك من تداعيات وتوترات وتدفع نحو مزيد من التطرف بالمنطقة.
لمطالعة موقع ديالوج.. عبر الرابط التالي:
https://www.ledialogue.fr/