يشير اقتحام كورية الشمالية لسماء سيول وقذف المنطقة الاقتصادية الحصرية لكوريا الجنوبية وكذلك إطلاق صاروخ ثانٍ قبالة الساحل اليابانى فى نوفمبر ٢٠٢٢ إلى أن مناخ الاضطرابات فى شرق آسيا مستمر ولكن هذه المواقف التى عادة ما تلجأ إليها بيونج يانج بانتظام لها فوائد متعددة لمختلف الجهات المؤثرة والكبرى فى هذه المنطقة.
التواجد الأطلسى على أبواب الصين
تقع شبه الجزيرة الكورية فى واحدة من أكثر المناطق الإستراتيجية على وجه الأرض وهى مسرح صراع بين القوتين العظمتين الأمريكية والصينية.
ومن أجل إيقاف التفوق العالمى للصين فى جميع المجالات الحيوية، تسعى الولايات المتحدة لوقف هذه الهيمنة من خلال اللجوء إلى استراتيجية عسكرية تعتمد على تهديد السواحل الصينية: تحافظ الولايات المتحدة وعدد كبير من الكيانات الأخرى الأعضاء فى الناتو على وجود عسكرى فى مناطق الحلفاء الواقعة بالقرب من الساحل الصينى، بما فى ذلك تايوان والفلبين واليابان وأرخبيل سينكاكو، وبشكل أكثر تحديدًا كوريا الجنوبية، وبالتالى وضع «الخصم الصينى» فى حالة انعدام الأمن الجغرافى.
لا شك أن تلك الأعمال التى تقوم بها القوة الكورية الشمالية، تمثل لليابان وتايوان فرصة لتغطية أنفسهما بالمظلة النووية والجيش الأطلنطى فى مواجهة إمبراطورية كبيرة.. زيادة قوة هذه الإمبراطورية وتوسع طموحاتها يثير قلق العديد من الدول والقوى الدولية لذلك: تفكر بكين منذ زمن بعيد فى ضم أرخبيل سينكاكو اليابانى من جهة لتأمين سواحلها وكذلك للاستيلاء على مصائد الأسماك وموارد النفط والغاز فى هذه المناطق، مما سيسمح لها أيضًا بإضعاف منافسها اليابانى القديم، وبذلك تكون جزيرة تايوان دائمًا ذات هدف أمنى للصين. وبالتالى، فإن هذه الكيانات المذكورة تولى اهتمامًا خاصًا بالحفاظ على وجود جار مثير يحفز وجودًا عسكريًا ونوويًا أمريكيًا وقائيًا.
علاقات متضاربة بين بيونج يانج والصين
لا شك التجارب الباليستية والنووية المتكررة والحديثة تشكل تفسيرًا حقيقيًا لتواجد أمريكى بالقرب من حدود الصين، يجعل دائما كوريا الشمالية منطقة عازلة مرهقة للغاية بالنسبة لبكين على المدى الطويل خاصةً وأن تلك المواقف الاستفزازية يتم استغلالها بانتظام من وجهة نظر دبلوماسية من قبل الولايات المتحدة ضد منافستها الصين التى تتهمها بأنها مسئولة بشكل غير مباشر، اتهامات يتبعها غالبًا تهديدات مختلفة بالانتقام.
الصين، التى انزعجت بعد ذلك من وجود قوة نووية كورية شمالية وذات سيادة كاملة على حدودها، ترى مصالحها تتعرض لعواقب وخيمة بسبب تلك المواقف الكورية الشمالية.. لذلك تلجأ الصين إلى ممارسة أشكال مختلفة من الضغط ضد حليفها الكورى الشمالى مثل فرض عقوبات اقتصادية تستهدف استيراد الفحم الكورى الشمالى أو حتى الاعتماد عليه فى أى جهة أخرى. وذلك من خلال علاقاتها وتعاونها الوثيق مع كبار الشخصيات فى كوريا الشمالية وهنا نذكر واقعة جانج سونج الشهيرة القريب أو العم للرئيس كيم جونج أون، الذى تم إعدامه فى عام ٢٠١٣ أوعلى الأقل ربما تم منعه ببساطة من الظهور فى الأماكن العامة وإزاحته من السلطة بسبب العلاقات الوثيقة التى أقامها الأخير مع بكين. فى الحقيقة تعمل الصين دائما على إحباط رغبة بيونج يانج فى أن تكون أحد أسباب التواجد الأطلسى فى المنطقة. بمعنى أخر تضغط كوريا الشمالية على بكين من خلال دفعها إلى الاستثمار بشكل أكبر على الاراضى الكورية الشمالية بشكل يجعلها تقف فى مواجهة التواجد الأمريكى فى كوريا الجنوبية. لذلك تلجأ كوريا الجنوبية لذلك دافعة الصين للحفاظ على أمنها الاستراتيجى بهذه الطريقة وبالتالى كل ذلك يساهم فى توفير الحماية للنظام الكورى الشمالى والحفاظ على بقائه.
اختلال موازين القوة الصينى الأمريكى
التجربة النووية الكورية الشمالية السادسة، والتهديد بضرب جزيرة جوام الأمريكية فى المحيط الهادئ فى عام ٢٠١٧، كانت محاولة من أجل نزع التوترات وتثبيط الوجود الأمريكى وإبعاد التواجد الأمريكى عن سواحلها. وكان الامريكيون مقتنعين بضرورة هدوء جزئى فى المنطقة لكن دون جدوى لأن واشنطن لا ترى علاجًا آخر سوى استمرار استراتيجية التخويف الجغرافى متذرعة بحجة التجارب الصواريخ لكوريا الشمالية. من جانبها فإن كوريا الشمالية تستفيد من هذا بتحريض الصين للحفاظ على مصالح مختلفة طويلة الأجل ومتعددة لكلا البلدين، تلك المصالح التى تشكل النقطة الميتة لمحادثات السلام بعد فشل الاجتماع الثانى بين القادة الأمريكيين والكوريين الشماليين فى فيتنام فى عام ٢٠١٩.
فى النهاية، فإن الرأى القائل بأن بيونج يانج هى حليف بكين غير المشروط والعدو الأول للولايات المتحدة وكوريا الجنوبية تقوضها الحقيقة وتفرض عليها القيود؛ فلا يوجد طرف فاعل سواء على المستوى الإقليمى والعالمى يمكن أن يكون له مصلحة طويلة الأمد فى اختفاء كوريا الشمالية بمواقفها المسببة للتوترات التى يميل الجميع إلى الاستفادة منها، خاصة وأن مشروع إعادة توحيد الكوريتين فى المستقبل يبدو أقل مثالية مقارنة بالتكلفة الباهظة التى قد تتعرض لها سيول إذا حدث هذا الاتحاد.
وأخيرًا، لا توجد دولة فى العالم ترغب فى رؤية اندماج الكورييتين مما يؤدى إلى ظهور قوة جديدة على أبواب اليابان والصين على وجه الخصوص.
معلومات عن الكاتب
جاد فرج فرار.. فرنسى من أصل سوري، يدرس العلوم السياسية فى جامعة مونتريال، مهتم بالتاريخ والأحداث الدولية والجغرافيا السياسية، وكاتب عمود دولى فى Le Dialogue..
لمطالعة موقع ديالوج.. عبر الرابط التالي:
https://www.ledialogue.fr/