قال البابا فرنسيس بابا الفاتيكان، أودُّ اليومَ أن أتبنَّى الكلمات التي وجّهها بولس الرّسول إلى جماعة قورنتس في القراءة الثّانية، وأن أردّدها أمامكم: "لَمَّا أَتَيتُكُم، أَيُّها الإِخوَة، لم آتِكُم لأُبَلِّغَكُم سِرَّ اللهِ بِسِحْرِ البَيانِ أَوِ الحِكمَة، فإِنِّي لم أَشَأْ أَن أَعرِفَ شَيئًا، وأَنا بَينَكُم، غَيرَ يسوعَ المسيح، بل يسوعَ المسيحَ المَصْلوب" (1 قورنتس 2، 1-2). نَعَم، خوف بولس هو خَوفي أيضًا، في وجودي هنا معكم باسم يسوع المسيح، إله المحبّة، والإله الذي حقّق السّلام بصليبه، يسوع، الإله المصلوب من أجلنا جميعًا، ويسوع، المصلوب في المتألّمين، ويسوع، المصلوب في حياة الكثيرين منكم، وفي أشخاصٍ كثيرين في هذا البلد، ويسوع القائم من بين الأموات، المنتصر على الشّرّ والموت.
واضاف أثناء الزيارة الرسوليّة إلى جنوب السّودان، قائلا أتيتُ إليكم لأُعلنه لكم، ولُأثَبِّتكم فيه، لأنّ بِشارة المسيح هي بِشارة رجاء: إنّه يعرف القلق والتّطلّعات التي تحملونها في قلوبكم، والأفراح والصِّعاب التي تُميِّز حياتكم، والظّلمات التي تضغط عليكم، والإيمان الذي ترفعونه إلى السّماء، مثل نشيد في الليل. يسوع يعرفكم ويحبّكم، إن بقينا فيه، يجب ألّا نخاف، لأنّه لنا أيضًا، سيتحوّل كلّ صليب إلى قيامة، وكلّ حزن إلى رجاء، وكلّ شَكوَى إلى رقص.
لذلك، أودّ أن أتوقّف عند كلمات الحياة التي وجّهها إلينا ربّنا يسوع اليوم في الإنجيل، وهي: "أَنتُم مِلحُ الأَرض [...]. أَنتُم نورُ العالَم" (متّى 5، 13. 14). ماذا تقول هذه الصُّوَر لنا، نحن تلاميذ المسيح؟
أوّلًا، نحن ملح الأرض. يُستخدم الملح لِيُعطي نكهة للطّعام. إنّه المُكَوِّن غير المرئي الذي يُعطي مذاقًا لكلّ شيء. لهذا السّبب بالتّحديد، منذُ العصور القديمة، كان يُنظرُ إليه على أنّه رمزٌ للحكمة، أيْ تلك الفضيلة التي لا تُرَى، لكنّها تعطي طعمًا للحياة ومن دونها تصبح الحياة بلا طعم، وبلا ذوق. ولكن، على أيِّ حكمة يكلّمنا يسوع؟ استخدم صورة الملح هذه، مباشرة بعد أن أعلن التّطويبات لتلاميذه: إذن، يمكننا أن نفهم أنّ هذه التّطويبات هي الملح في حياة المسيحيّ. في الواقع، تحمل التّطويبات الحكمة السّماويّة إلى الأرض: فهي تُحدث ثورة في معايير العالم وطريقة التّفكير العامّة. وماذا تقول هذه التّطويبات؟ باختصار، تؤكّد أنّه لنكون طوباويّين، أيْ سُعداء تمامَ السّعادة، يجب ألّا نحاول أن نكون أقوياء وأغنياء وأصحاب سلطان، بل نكون متواضعين وودعاء ورحماء، ولا نصنع الشّرّ لأحَد، بل نكون صانعي سلام للجميع. هذه هي حكمة التّلميذ - قال لنا يسوع -، وهي التي تُعطي نكهة للأرض التي نعيش فيها. لنتذكّر: إن مارسنا التّطويبات
وإن جسَّدنا حكمة المسيح، لا نعطي مذاقًا جيّدًا لحياتنا فحسب، بل أيضًا للمجتمع، وللبلد الذي نعيش فيه.
والملح، بالإضافة إلى أنّه يُعطي نكهة، لهُ وظيفة أخرى، ضروريّة في زمن المسيح، هي: حفظ الطّعام حتّى لا يتلف ولا يفسد.
وقال الكتاب المقدّس أيضًا إنّه كان هناك ”طعام“، وهو خير أساسيّ، كان يجب الحفاظ عليه قبل كلّ شيء آخر، وهو العهد مع الله. لذلك في تلك الأوقات، كلَّ مرّةٍ كان يُقدَّم فيها قُربانٌ لله، كان يُوضع قليلٌ من الملح. لنُصغِ إلى ما يقوله الكتاب المقدّس في هذا الموضوع: "لا تُخْلِ تَقدِمَتَكَ مِن مِلْحِ عَهْدِ إِلٰهِكَ. مع جَميعِ قَرابينِكَ تُقَرِّبُ مِلْحًا" (الأحبار 2، 13). هكذا، ذكّرنا الملح بالحاجة الأساسيّة للحفاظ على الرّابط مع الله، لأنّه أمين لنا، وعهده معنا غير قابل للفساد، ولا يُقطَعُ، وهو دائم (راجع العدد 18، 19؛ الأخبار الثّاني 13، 5). لذلك، فإنّ تلميذ يسوع، لكونه ملح الأرض، هو شاهد على العهد الذي قطعه الله، والذي نحتفل به في كلّ قدّاس إلهيّ: عهد جديد وأبديّ ولا ينقطع (راجع 1 قورنتس 11، 25؛ العبرانيّين 9)، ومحبّة لنا لا يمكن أن تَتَضَعضَع ولا حتّى بسبب عدم أمانتنا.
واستطرد قائلا أيّها الإخوة والأخوات، نحن شهود على هذا العهد العجيب. في القديم، عندما كان النّاس أو الشّعوب يُقيمون صداقات في ما بينهم، كانوا مرارًا يؤكّدونها بتبادل القليل من الملح. ونحن لأنّنا ملح الأرض، نحن مدعوّون إلى أن نشهد للعهد مع الله بفرح، وشُكر، ونُظهر أنّنا أشخاصٌ قادرون على أن نخلق روابط صداقة، ونعيش الأخوّة، ونبني علاقات إنسانيّة جيّدة، لكي نمنع أن يسود فساد الشّرّ، ووباء الانقسامات، وقذارة الأعمال الأثيمة، ومأساة الظلم.
أودّ اليوم أن أشكركم لأنّكم ملح الأرض في هذا البلد. ومع ذلك، أمام الكثير من الجراح، وأعمال العنف التي تغذّي سمّ الكراهية، وأمام الإجرام الذي يسبّب الشّقاء والفقر، يمكن أن يبدو لكم أنّكم صِغَار وعاجزون. ولكن، عندما تُسيطر عليكم تجربة الشّعور بأنّكم غير قادرين، حاولوا أن تنظروا إلى الملح وإلى حُبَيبَاتِه الصّغيرة: إنّه مُكَوِّن صغير، وما أن نضعه على طبق الطّعام، حتّى يختفي ويذوب، ولكن بهذه الطّريقة بالتّحديد يعطي نكهة للطعام كلّه. وهكذا، نحن المسيحيّين، على الرّغم من ضَعفنا وصِغَرِنَا، حتّى عندما يبدو لنا أن قوّتنا لا أهميّة لها أمام كِبَرِ المشاكل وهَوَجِ العنف الأعمى، يمكننا أن نقدّم مساهمة حاسمة لتغيير التّاريخ. يسوع يريد أن نصنع ذلك مثل الملح: يكفي ذرّة من الملح التي تذوب لكي تعطي نكهة مختلفة للأمور مُجتمِعَة. لذلك، لا يمكننا أن نتراجع، لأنّه من دون ذلك القليل، ومن دون القليل من مِلحِنَا، يفقدُ كلّ شيء مذاقه. لنبدأ بالتّحديد من القليل، ومن الأساسيّ، ومن الذي لا يَظهر في كتب التّاريخ، ولكنّه يغيّر التّاريخ: وباسم يسوع، وتطويباته، لِنَضَعْ جانبًا أسلحة الكراهية والانتقام لكي نحمل الصّلاة وأعمال المحبّة، ولْنَتَغَلَّبْ على تلك الكراهية والبُغض اللتين أصبحتا، مع مرور الوقت، مُزمنتَين وتوشكان أن تضع القبائل والجماعات العرقيّة في معارضة بعضها لبعض، ولْنَتَعَلَّمْ أن نضع على الجراح ملح المغفرة، الذي يُحرِق لكنّه يشفي. وحتّى إن نَزَف قلبنا بسبب الإساءات التي تلقّيناها، لنترك مرّة واحدة وإلى الأبد الردّ على الشّرّ بالشّرّ، وسنكون بخير في داخل أنفسنا، لِنستقبل ولْنحبّ بعضنا بعضًا بصدق وسخاء كما يعمل الله معنا. لِنحافظ على الخير الذي نحن عليه، ولا ندع الشّرّ يفسدنا!
لِننتقل إلى الصّورة الثّانية التي استخدمها يسوع، وهي النّور: أنتم نور العالم. قالت نبوءة شهيرة عن إسرائيل: "إِنِّي قد جَعَلتُكَ نورًا لِلأُمَم، لِيَبلُغَ خَلاصي إِلى أَقاصي الأَرض" (أشعيا 49، 6).
والنّور الحقيقيّ الذي ينير كلّ إنسان وكلّ شعب، والنّور الذي يضيء في الظّلمة ويبدّد سُحُبَ كلّ ظلام (راجع يوحنّا 1، 5. 9). ويسوع نفسه، نور العالم، قال لتلاميذه إنّهم هُم أيضًا نور العالم. هذا يعني أنّه إن قبلنا نور المسيح، والنّور الذي هو المسيح، سنصير منيرين، ونشعّ نور الله!
أضاف يسوع قائلًا: "لا تَخْفى مَدينَةٌ قائمةٌ عَلى جَبَل، ولا يُوقَدُ سِراجٌ وَيُوضَعُ تَحْتَ المِكيال، بَل عَلى المَنارَة، فَيُضِيءُ لِجَميعِ الَّذينَ في البَيْت" (متّى 5، 14-15). استخدم يسوع هنا أيضًا صورًا مألوفة في تلك الأوقات: كانت قرىً مختلفة في الجليل قائمة على التّلال، وكان يمكن رؤيتها بوضوح من بعيد، وكانت المصابيح في البيوت توضع في مكان مرتفع حتّى تضيء كلّ زوايا الغرفة. ثمّ، عندما كانوا يريدون إطفاءها، كانت تُغطّى بقطعة من القرميد تسمّى ”مكيال“، الذي كان يحجب الأكسجين عن اللّهب حتّى ينطفئ.
أيّها الإخوة والأخوات، دعوة يسوع لكي نكون نور العالم واضحة: نحن، تلاميذه، مدعوّون إلى أن نشعّ مثل مدينة موضوعة في الأعلى، ومثل مصباح يجب ألّا تنطفئ شعلته أبدًا. بعبارة أخرى، قبل أن نقلق من الظّلام الذي يحيط بنا، وقبل أن نتمنّى أن يضيء شيء من حولنا، مطلوبٌ منّا أن نشِعَّ، وأن نضيء بحياتنا وبأعمالنا المدن والقرى والأماكن التي نسكنها، والأشخاص الذين نعيش معهم، والنشاطات التي نقوم بها. الرّبّ يسوع يعطينا القوّة، القوّة لأن نكون نورًا فيه، من أجل الجميع. لأنّ الجميع يجب أن يكونوا قادرين على أن يروا أعمالنا الصّالحة، وإن رأوها - يذكّرنا يسوع -، سينفتحون على الله بدهشة وسيمجّدونه (راجع الآية 16): إن عشنا أبناءً وإخوةً على الأرض، سيكتشف الناس أنّ لهم أبًا في السّماء. لذلك، يُطلَبُ منّا أن نكون متَّقدِين بالحبّ: فلا يحدُثْ أن ينطفئ نورنا، ولا أن يختفي أكسجين أعمال المحبّة من حياتنا، ولا أن تنزع أعمال الشّرّ الهواء النّقي من شهادتنا. هذه الأرض الجميلة والمعذّبة تحتاج إلى النّور الذي يحمله كلّ واحدٍ منكم، أو بالأحرى، إلى النّور الذي هو كلّ واحدٍ منكم!
أيّها الأعزّاء، أتمنّى أن تكونوا ملحًا ينتشر ويذوب بسخاء لكي تُضفوا نكهة على جنوب السّودان مع مذاق الإنجيل الأخويّ، وأن تكونوا جماعات مسيحيّة منيرة، وأن تُرسلوا نور الخير على الجميع، مثل المدن المرتفعة، وأن تُظهروا أنّه جميل وممكن أن نعيش المجّانيّة، وأن يكون فينا رجاء، وأن نبني معًا مستقبلًا متصالحًا. إخوتي وأخواتي، أنا معكم وأتمنّى أن تختبروا فرح الإنجيل، وطَعمَه ونورَه، الذي يريد يسوع، "إِلٰهُ السَّلامِ" (فيلبي 4، 9)، "إِلٰهُ كُلِّ عَزاء" (2 قورنتس 1، 3)، أن يفيضه على كلّ واحدٍ منكم.