تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
ونأتي إلى محمد عبده تلميذ الأفغاني المخلص لنجد ثمة فارقين. أولهما أن عبده كان أكثر وضوحًا في تجديده لكنه كان أقل شجاعة في مواجهة الحكام. وإذ يستشعر محمد عبده وطأة الطغيان كان يراسل أستاذه برسائل مليئة بالألغاز ودون أن يوقعها فيرد الأفغاني "تكتب لي ولا توقع وتُعقـَّد الألغاز. وما الكلاب قلت أو كثرت" [محمد رشيد رضا – تاريخ الأستاذ الإمام – الجزء الأول – صـ142]، ويعود محمد عبده ليقترح على أستاذه "أرى أن نهجر السياسية ونذهب إلى مجهل من مجاهل الأرض، لا يعرفنا فيه أحد، ثم نختار من أهله عشرة غلمان من الأذكياء نربيهم على منهجنا فإذا أتيح لكل منهم تربية عشرة آخرين لا تمضى بضع سنين إلا ولدينا مئة قائد من قواد الجهاد في سبيل الإصلاح"، ويرد الأفغاني مستنكرًا "إنما أنت مثبط، نحن قد شرعنا في العمل ولا بد من المضي فيه ما دمنا نرى منفذًا" [عباس العقاد – المرجع السابق – صـ106].
.. ورغم هذا الفارق الواضح في المواقف فإن الأفغاني لم يجد أفضل ولا أكثر علمًا ولا قدرة على التأثير في حركة المجتمع من محمد عبده وطوال سيره بخطوات واهنة في طريقة إلى الإبعاد كان يحيط به بعض من الأتباع، وكان يوصيهم بصوت مرتفع "حسبكم محمد عبده، حسبكم محمد عبده من ولي أمين". لكن محمد عبده كان يتطلع مثل أستاذه إلى التغيير من أعلى وعبر تأثير في النخبة إلى درجة أن الأفغاني راهن على توفيق عندما كان وليًّا للعهد، ولما تولى توفيق موقع الخديو قال للأفغاني في تملق "أنت أملي في هذا البلد.. يا سيد". ولكن الخديو ما لبث أن انقلب على الأفغاني وطرده من مصر. كذلك علق محمد عبده آماله على رياض باشا الذي توسم فيه بعضًا من التفهم. لكن لحركة الجموع الشعبية رأيا آخر، فما إن تحرك العرابيون بمساندة عارمة من الجماهير حتى كانت أول المطالب التي صاح بها عرابي في ميدان عابدين محددًا مطالب قواته "إقالة الوزارة المستبدة"، وأطيح برياض ويكتب عبده شعرًا لأستاذه مهاجمًا العرابيين وداعمًا لرياض.
قامت عصابات جند في مدينتنا.. لعزل خير رئيس كنت راجيه
قاموا عليه لأمر كان سيدهم.. يخفيه في نفسه والله مبديه
كان الرئيس حليف العدل منقبه.. وسيد القوم يهوى الجور يأتيه
جروا مدافعهم، صفوا عساكرهم.. نادوا بأجمعهم سل ما ترجيه
فنال ما نال وانفضت جموعهم.. أما النظام فقد دكت مبانيه [محمد رشيد رضا – تاريخ الأستاذ الإمام – الجزء الأول – صـ125].
وباختصار فإن محمد عبده كان يعتقد من فرط إعجابه برياض باشا أن الخديو هو الذي حرّك العرابيين في مسرحية تستهدف عزل رياض باشا. ويكتب محمد عبده للأفغاني "إن أنصار السوء وأعوان الشر قد سعوا بالوقيعة، حتى غيروا قلب دولة رياض باشا عليك وعلى تلاميذك الصادقين، لكن لم نلبث أن وصلنا إليه، وكشفنا له ما غمض من الحقيقة حتى زال لبس المبطلين" [المرجع السابق – صـ142] والحقيقة أن محمد عبده كان ضد الثورة العرابية في بدايتها، وهكذا اعترف عبده لألفريد بلنت قائلًا "لقد انتقدت الحكومة بشدة، لكنني كنت ضد الثورة، كنت أعتقد أنه يكفي جدًّا أن نحصل على دستور خلال خمس سنوات، وكنت أعارض أسلوب طرد رياض باشا ومظاهرة عابدين، وكان سليمان باشا أباظة والشريعي باشا يؤيدانني ضد الثورة لكننا كنا جميعًا نطالب بالدستور " [Blunt – lbid-p.493]. وحتى بعد اشتعال الثورة وانضمام جماهير غفيرة إليها، وتحولها من تحرك عسكري إلى ثورة شعبية حقًّا أبدى محمد عبده مخاوفه من حركة الجموع الشعبية وحرّض الأعيان والفئات الوسطى من الانصياع لحركة الجماهير.. حرضهم علنًا، كما سنرى.