صدر حديثًا للدكتور أحمد يوسف علي، كتاب جديد بعنوان: "أم كلثوم الغناء والشعر".
عرف عن كبار المغنين في حياتنا المعاصرة أنهم يؤدون ما يوضع لهم من ألحان لكلمات يكتبها الشعراء الذين يكتبون بالفصحى أو بالعامية، وأن تدخل هؤلاء المغنين فيما يغنون تدخل محدود في قبول النص الشعري أو رفضه، أو في تعديل طفيف لكلمة هنا أو كلمة هناك من كلمات النص. ولكن لم يكن مألوفا ولا معروفا أن يعلن المغني موقفه الصريح فيختار من النصوص، ما يختار، ويقبل منها ما يقبل وفق رؤية فكرية واجتماعية تحدد علاقته بمجتمعه وبقضاياه، وعلاقته بمجتمعه العربي، ومجتمعه الإنساني.
فقد مارست أم كلثوم هذا الدور بوعي ورؤية واقتدار في كل ما قدمته من القصائد. فغنت أولا من عيون الشعر العربي منذ القرن الثالث الهجري حتى وقتنا الراهن، وغنت لشعراء مصريين، وعرب، وشعراء من خارج الثقافة العربية. وثانيا غنت لشعراء اختارت أن تغني لهم بعد رحيلهم واستدعت شعرهم وكأنه بعث جديد. ولما لم تكن قصائد هؤلاء الشعراء مكتوبة للغناء أو لقالب القصيدة المغناة، فقد بزغت رؤيتها الفنية في اختيار النص وتكوينه وبناء وحداته من بين عشرات الأبيات التي كتبها الشاعر في قصيدة مثل "نهج البردة" أو "النيل" أو"ولد الهدى" أو "الأطلال" أغير ذلك.
ومن ثم فإن أم كلثوم غنت القصيدة وهي شكل من أشكال الغناء كتبها هذا الشاعر أو ذاك للغناء، وغنت القصيدة التي لم يكتبها صاحبها للغناء، وكونت أم كلثوم نصها ووفرت له وحدته من حيث التماسك النصي، ومن حيث الموضوع والرؤية. وهذا ما دعانا إلى البحث في هذه المسألة وهي لماذا غنت أم كلثوم القصيدة؟ وما عدد هذه القصائد؟ وما أشكالها؟ وما موضوعاتها؟ ومن الشعراء الذين غنت لهم. والشق الثاني من هذه المسألة هو لماذا اختارت ما اختارت من نصوص القصائد الكبرى وكيف كونته؟ وماذا توفر فيه من الشروط النصية؟ ولماذا استدعته وكيف أدته؟ والشق الثالث هو الخطاب الشعري والأيديولوجيا ويدور حول كمون الإيديولوجيا في النوع الشعري الذي اختارته للغناء، وصلة الخطاب الشعري بالعالم والرسالة التي يبثها. ومن ثم فإن موضوع هذا الكتاب هو أم كلثوم ودورها النقدي في غناء القصيدة، وفي اختيارها وتكوينها وبناء وحداتها، وفي رسالتها إلى المتلقين.
يتضمن الكتاب خمسة مباحث هي: "الشعر والغناء"، و"غناء القصائد"، و"شوقيات أم كلثوم بين التلقي وتاريخ الأدب"، و"أم كلثوم تؤلف الأطلال"، و"الخطاب الشعري والأيديولوجيا".
يناقش المبحث الأول مسألتين الأولى: تتصل بعلاقة الشعر بالغناء على امتداد تاريخ كل منهما ودور أم كلثوم في رفع قدر الغناء والمغنين؛ والثانية: تتصل بأم كلثوم وقدرتها على الاختيار والانتقاء وتكوين النص كما تراه. وهل نهضت بهذا الدور وحدها أو أن شاعراً قريباً منها مثل أحمد رامي قام بهذا الدور ثم نسبه إلى أم كلثوم؟ فالقصائد التي أدتها أم كلثوم كانت نوعين: الأول الذي كتبه هذا الشاعر أو ذاك للغناء وقبلته أم كلثوم وأدته. والثاني القصائد التي لم تكتب للغناء ورحل شعراؤها وعادت أم كلثوم إلى ديوان الشاعر فاختارت ما أرادت وهيأته حسب رؤيتها للغناء كما حدث مع أحمد شوقي الذي استعادته أم كلثوم وقدمته للجمهور من المتلقين بنصوص من شعره اختارتها وعدَّلت فيها، وكما فعلت مع حافظ إبراهيم في" مصر تتحدث عن نفسها" ومع إبراهيم ناجي في "الأطلال" ومع غيرهم. فهل نهضت أم كلثوم بدورها في الاختيار والانتقاء والتعديل والتركيب والحذف والإضافة؟ وهل امتلكت المؤهلات الفكرية والنقدية التي مكنتها مما أرادت؟
والمبحث الثاني هو "غناء القصائد" الذي تناول القصائد التي غنتها أم كلثوم وشكل هذه القصائد وعلاقتها بأشكال الغناء المعروفة والأسباب التي دفعتها لغناء هذا الكم الكبير من الشعر العربي والشعراء الذين تغنت بقصائدهم سواء أكانت قصائد كتبها شعراؤها للغناء أم اختارتها ام كلثوم انطلاقا من رؤيتها الفكرية والفنية كما فعلت مع شوقي مثلا بعد رحيله. واختتم هذا الفصل بنتائج مهمة وضحت ما قدمته أم كلثوم في مجال غناء القصائد، وفي مجال النص، ومجال الشعراء، ومجال التلحين.
أما المبحث الثالث وهو "شوقيات أم كلثوم بين التلقي وتاريخ الأدب" يناقش مفهوم "الشوقيات" ومدى صلته بصاحبه وهو أحمد شوقي وكيف تبلور هذا المفهوم بعد رحيل الشاعر وتحول من مجرد دال على مجموع شعري هو ديوان الشاعر إلى دال على مفهوم نقدي يدل على الشاعر وشعره ومدرسته والنوع الشعري. ثم الصلة التي تربط هذا المفهوم بما أسميناه " شوقيات أم كلثوم" وما هذه الشوقيات وما مدى صلتها بالنصوص الأم لدى شوقي في ديوانه ولماذا استدعتها؟
ولم يكن كافياً تمييز "شوقيات أم كلثوم" دون البصر في النظر النقدي الذي مارسته أم كلثوم في إخراج شوقياتها اعتماداً على الشوقيات الأم. فأم كلثوم لم تخرج شوقياتها مرة واحدة ولكنها أخرجتها على مدى زمني طويل بلغ ثلاثة عقود تقريباً. فلماذا التفتت أم كلثوم لشوقي بعد رحيله طيلة هذه العقود ولماذا اختارته وحده لتنتقي من شعره تسعة نصوص من عيون شعره مثل" نهج البردة" و" الهمزية" و" النيل" و"سلوا قلبي" ولم تفعل ذلك مع شاعر آخر من الراحلين أو المعاصرين؟ وما ظروف التَّلقي التي حكمت رؤيتها وحددت رسالة النص؟
والمبحث الرابع وهو" أم كلثوم تؤلف الأطلال" فيقف عند إشكالية موقف أم كلثوم من أن تغني لشاعر معاصر مثل إبراهيم ناجي قدم لها قصيدة "الأطلال" في منتصف أربعينيات القرن العشرين ولم تلتفت إليها بعد أن مات الشاعر1953م إلا العام 1965م وقد انتقت منها وعدَّلت وقدَّمت وأخَّرت واستعانت بقصيدة" الوداع" في تشكيل النص الذي قدمته للجمهور العام 1966م. فلماذا أجلت النظر في" الأطلال" وكيف اختارت النص الذي قدمته؟ وماذا صنعت فيه؟ وما العلاقة بين النصين؟ أما المبحث الخامس وهو" الخطاب الشعري والإيديولوجيا" فيعالج الصلة بين اختيارات أم كلثوم من نصوص وشعراء وبين الأيديولوجيا السائدة سواء أكانت في الشكل الشعري أم في الفكر والأنساق الاجتماعية.
وقد أردفنا المبحثين الثالث والرابع بالنصوص التي اختارتها أم كلثوم وقدمتها للناس، وبالنصوص الأم في ديوان أحمد شوقي وديوان إبراهيم ناجي ليكون القاريء على بيِّنة من كل كلمة قدمناها في هذه الدراسة ونسبناها إلى صاحبها.