الأحد 22 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

بالعربي

Le Dialogue بالعربي

إبراهيم نوار يكتب: محاولة استكمال الصورة.. هكذا استطاعت روسيا تغيير الشرق الأوسط

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

العبرة فى السياسة ليس خلق الأزمة، لكنها القدرة على حلها. وقد استطاعت الدبلوماسية الروسية فى الشرق الأوسط خلال السنوات العشر الأخيرة أن تغير خريطة التوازنات الإقليمية فى الشرق الأوسط، وأن تساعد على بلورة طابع جديد لعلاقات المنطقة بالعالم. الوجود العسكرى الروسى فى سورية فى خريف عام ٢٠١٥ كان بداية تغيير قواعد اللعبة منذ ذلك الوقت حتى الآن. ونستطيع أن نقول بلا مبالغة أن الدبلوماسية الروسية فى الشرق الأوسط كانت العامل الخارجى الرئيسى الذى شكّل تطور الأحداث، والذى أحال دور الولايات المتحدة إلى مجرد ظل يخبو ويتلاشى على المسرح الإقليمى. ومع ذلك فإن هذا لا يعنى أن المنطقة كانت تخلو من محركات القوة التى أدت إلى تغيير المشهد، ولا يعنى أن الولايات المتحدة والقوى الحليفة لها أو المنافسة خلت هى الأخرى من المحركات التى أسهمت فى تشكيله، ولا يعنى أيضا القول بأن المشهد بأكمله قد وصل إلى وضع التوازن المستدام فى الأجل المتوسط. 
وفى هذا السياق، يجب أن نلاحظ أن الدبلوماسية الروسية الجديدة فى المنطقة كانت واحدا من الردود الروسية على العقوبات الأمريكية والأوروبية بعد حرب روسيا فى القرم وضم شبه الجزيرة ذات الموقع الاستراتيجى الحاكم بين روسيا والعالم عام ٢٠١٤. بمعنى آخر فإننا نقول أن الدبلوماسية الروسية فى الشرق الأوسط ليست منفصلة عن الحرب الجارية فى أوكرانيا حاليا، وأن مسار ومصير هذه الحرب ينعكس على منطقة الشرق الأوسط تماما كما تنعكس عليها تداعيات الحرب سياسيًا واقتصاديا وعسكريا. لقد وقع التدخل العسكرى الروسى فى سورية فى العام التالى لحرب القرم، ليعبر عن رفض روسيا محاولة عزلها عن العالم، حيث قررت على مايبدو استخدام فائض قوتها، التى يبالغ الغرب فى الاستهانة بها، فى تشغيل محركات جديدة لدبلوماسيتها فى مناطق تشابكها الجيوستراتيجى فى الشرق الأوسط والشرق الأقصى وآسيا الوسطى. إن روسيا حقيقة جيوستراتيجية راسخة فى قلب العالم، من الخطأ الفادح إنكار وجودها أو محاولة عزلها. وأنا اتحدث هنا عن روسيا وليس عن فلاديمير بوتين، وأقول إن حرب أوكرانيا الحالية هى حرب ضد روسيا وليست حربًا ضد بوتين. 

محركات القوة الجديدة 
تملك الدبلوماسية الروسية أدوات كثيرة تستطيع تشغيلها لتحقيق أهداف الأمن القومى. وقد أدت الحرب إلى تحفيز عمل هذه الأدوات، فحولتها إلى محركات دافعة، تفتح طرقًا مغلقة أمام الدبلوماسية لتغيير المشهد فى الشرق الأوسط. ونقول إن أربعة محركات روسية لعبت منذ نهاية حرب القرم، وما تزال، دورًا رئيسيًا فى إعادة صياغة المشهد الإقليمى فى الشرق الأوسط، وإعادة تشكيل العلاقات بين تلك المنطقة والعالم. المحركات الأربعة هى السلاح والنفط والقمح ثم الروبل الذى انضم أخيرا إلى المحركات الثلاثة الأولى. عن طريق النفط إكتشفت الدبلوماسية الروسية صيغة جديدة بسيطة وعبقرية لإعادة صياغة علاقاتها مع السعودية ودول الخليج المصدرة للنفط. وقد تحقق هذا الاكتشاف سريعًا بعد نهاية حرب القرم، وتجسد فى صيغة مؤسسية تمثلت فى تشكيل مجموعة «أوبك +» عام ٢٠١٦، التى تقود روسيا جناحًا لها، هو الدول المصدرة للنفط غير الأعضاء فى أوبك، بينما تقود السعودية الجناح الآخر الذى يضم الدول المصدرة الأعضاء فى أوبك. ومن الضرورى أن نلفت النظر إلى أن «أوبك +» هى «تحالف أنداد»، لا يقوم على تسلط طرف من الأطراف، وهو تحالف يقوم على معادلة تعاون بصيغة الربح المشترك (win-win) وليس على معادلة صراع صفرية تنتهى إلى أن الفائز يحصد كل المكاسب. لهذا فإن صيغة «أوبك +» نشأت قوية، واستمرت حتى الآن على الرغم من الضغوط الأمريكية الحادة. بل والأهم من ذلك أن تلك الصيغة أصبحت مدخلًا جديدًا لتطوير علاقات روسيا بالسعودية ودول الخليج. 
ومع تشغيل محرك النفط لدفع الدبلوماسية الروسية فى الشرق الأوسط، تم تشغيل المحركات الأخرى بدرجة أو بأخرى؛ فلعبت دبلوماسية القمح والسلع الغذائية مثل زيوت الطعام دورًا مهمًا فى تطوير العلاقات مع مصر والجزائر ودول الخليج، ولعبت دبلوماسية السلاح دورًا محوريًا فى تطوير العلاقات مع سورية وإيران والجزائر، وأخيرا بدأت الدبلوماسية الروسية فى تشغيل محرك جديد لدفع علاقاتها بالمنطقة إلى أفق جديد تماما، يهدف لإقامة نظام نقدى جديد يستند على قاعدة متينة من الذهب والموارد الطبيعية وشبكة من العلاقات الاقتصادية بين بلدان تشترك مع روسيا فى المصالح المستدامة. وبدلًا من أن يكون الروبل رمزًا من رموز الهزيمة الروسية، فإن المفارقة التى نراها الآن هى أنه أصبح محركًا جديدًا لدبلوماسيتها داخل أربعة نطاقات رئيسية: النطاق الأول هو مجموعة «الاتحاد الإقتصادى الأوراسى» الذى يضم حاليا مع روسيا كلا من كازاخستان وقيرغستان وأرمينيا وروسيا البيضاء. النطاق الثانى هو الصين أكبر قوة صناعية وتجارية فى العالم. الثالث هو مجموعة بريكس التى تضم البرازيل والهند وجنوب أفريقيا إلى جانب كل من الصين وروسيا. أما النطاق الرابع فهو الشرق الأوسط، بعد أن أعلن البنك المركزى الروسى يوم ١٧ يناير الحالى إقامة آلية تحويل مباشر بين الروبل الروسى وثلاث عملات من دول المنطقة هى الدرهم الإماراتى والريال القطرى والجنيه المصرى. وإذا نجحت روسيا فعلًا فى وضع أسس نظام نقدى عالمى، موازٍ للنظام النقدى الحالى الخاضع لهيمنة الدولار والولايات المتحدة، فإننا قد نرى للمرة الأولى فى تاريخ العالم هيكلًا متعدد الأطراف للمعاملات النقدية يقوم على التنوع ووجود أكثر من منطقة نقدية (الدولار - اليورو- اليوان- الروبل). 



ملامح المشهد الحالى
وحتى نلخص المشهد على ضوء نتائج عمل محركات الدبلوماسية الروسية الجديدة وغيرها من المحركات فى الشرق الأوسط نرصد الملامح الرئيسية التالية: 
أولا: أن روسيا تدخلت فى سورية بينما كان حكم الرئيس السورى بشار الأسد قاب قوسين أو أدنى من السقوط، وكانت الحرب الأهلية السورية فى ذروتها. وتبدو الصورة الآن على العكس من ذلك تماما، حيث أن حكم الرئيس السورى لم يكن أقوى مما هو عليه اليوم منذ عام ٢٠١١، كما أن الحرب الأهلية قد توقفت تقريبا. نتائج عمل الدبلوماسية الروسية لم تتوقف عند ذلك الحد، بل إنها تعمل حاليًا على إقامة علاقات مستقرة داخل مثلث تركيا- سورية- إيران، بما يساعد على خلق سلام مستدام هناك. 
ثانيا: ظهور تحالف سياسى - اقتصادى - عسكرى بين روسيا وإيران، ما يزال فى طور التشكل والنمو، يستجيب لحاجة روسيا للوصول الآمن إلى المياه الدافئة فى المحيط الهندى عن طريق إيران، وهو ما يتم حاليا بتطوير «محور الشمال- الجنوب»، وتعزيز الوصول الآمن للمياه الدافئة فى البحر المتوسط عن طريق البحر الأسود وسورية. 
ثالثا: استطاعت الدبلوماسية الروسية الجديدة فى الشرق الأوسط توفير مجال حيوى سياسى ومعنوى لمساعدة السعودية ودول الخليج على إعادة رسم علاقاتها مع العالم على أساس مبدأ «استقلالية السياسة الخارجية. وقد كانت قمة الرياض العربية - الأمريكية فى يوليو الماضى عنوانا للفشل الأمريكى فى الشرق الأوسط، حيث رفضت السعودية، «الدولة المحورية العربية حاليًا»، السياسة النفطية التى تريد واشنطن فرضها، كما رفضت الدول العربية فى مجموعها فكرة إقامة حلف عسكرى إقليمى تشارك فيه.
ويمكننا أن نستخلص فى النهاية أن الدبلوماسية الروسية الجديدة فى الشرق الأوسط، بمحركاتها الأربعة مجتمعة، تعكس نضوجا فى قدراتها، وانتقالا من الاعتماد على محرك أيديولوجى للسياسة الخارجية، إلى محركات براجماتية ذات طابع شبكى مترابط، تتجنب الوقوع فى مصيدة الاستقطاب السياسى، أو اتخاذ مواقف متشنجة لأسباب قصيرة الأجل، وهو ما يتجلى فى علاقات روسيا بدول مثل مصر والسعودية وإيران وتركيا وإسرائيل. 
 


معلومات عن الكاتب 
الدكتور إبراهيم نوار خبير اقتصادى له العديد من الكتابات التى توضح بأسلوب السهل الممتنع أبعاد الكثير من القضايا الاقتصادية التى تشغل المتخصص وغير المتخصص.. تنشر مقالاته عدة صحف ودوريات مصرية وعربية.. بأسلوبه المعتاد، يعرض للقارئ فكرته حول الدور الروسى فى منطقتنا وكيفية تغيير المشهد الذى كان يميل ناحية الغرب.