محطة الطاقة النووية زابوريجيا ودروس التاريخ المعاصر
احتمالات الكارثة واردة بدون تفجير الأسلحة النووية.. والمواد المشعة يمكن أن تلوث المنطقة إذا لم يتم إيقاف ذوبان قلب المفاعل
الحرب فى أوكرانيا تحتوى على الكثير من الأشياء المجهولة، حيث يقوم الغازى بتدمير البنية التحتية للطاقة فى المدن الكبرى، بينما يلمح باستمرار إلى احتمال نشوب حرب نووية ومع ذلك يمكن أن تحدث كارثة نووية حتى بدون تفجير الأسلحة النووية. سيحدث هذا إذا قام المهتمون بتحديث السيناريو الذى حدث فى تشيرنوبيل، خاصةً أنه تم بناء محطة زابوريجيا بشكل ملحوظ على نفس مبدأ وحدات تشيرنوبيل حيث أدى انفجار هذا المفاعل عام ١٩٨٦ إلى تلويث الغلاف الجوي؛ ولكن كان هناك خطر أكبر يلوح فى الأفق: إذا لم يتم إيقاف ذوبان قلب المفاعل، لكانت المواد الملوثة قد لامست المياه الجوفية والمنطقة التى يسكنها الملايين من البشر، وتكون غير صالحة للحياة لعدة أجيال على الأقل.
لذا فإن قضية محطات الطاقة النووية الحرارية هى واحدة من القضايا الأمنية الرئيسية فى أوروبا اليوم. والسؤال هو هل الجيش الروسى مستعد لإطلاق العنان لكارثة نووية جديدة على نطاق غير مسبوق؟ وهل يوجد فعلًا تهديد محتمل أم أن ابتزاز محطة للطاقة النووية الحرارية مجرد جزء من تكتيكات الضغط التى يتبعها الكرملين؟
بفضل تعاون إدارة إحدى الجامعات الرئيسية فى أوكرانيا (جامعة زابوريجيا الوطنية)، أتيحت لى فى نوفمبر ٢٠١٩ فرصة لرؤية محطة الطاقة النووية والتى تقع على بعد حوالى ٦٠ كيلومترًا فى خط مستقيم من مدينة زابوريجيا، وهى مقر الوحدة الإدارية (أوبلاست) زابوريجيا. ويبلغ عدد سكان المدينة ٧٠٠٠٠٠ نسمة وهناك مشروع ثنائى بين جامعة ليوبليانا (سلوفينيا) وجامعة زابوريجيا ويدرس طلابهم فى ليوبليانا (فى إطار برنامج إيراسموس بلس للتبادل) وقد تلقى بعض الزملاء من كلية زابوريجيا للفلسفة دعوة للحضور إلى ليوبليانا فى فصل الشتاء ٢٠٢٢-٢٠٢٣. وكانت هناك منح دراسية متاحة لهم. وفوجئنا بأن لا أحد يريد مغادرة المدينة، على الرغم من أن زابوريجيا الآن فى الخطوط الأمامية بالقرب من المحطة. وهنا يبقى أن نشير إلى أن الأحكام العرفية السارية حاليا فى أوكرانيا لا تسمح للرجال بمغادرة البلاد.
خلال زيارتى إلى زابوريجيا فى نوفمبر ٢٠١٩، رأيت العملاق الذى يعكس القرن العشرين وهى محطة دنيبرو للطاقة الكهرومائية.. إنها أكثر من مجرد هيكل رائع وفى الحقيقة كان من الصعب العثور على مبنى مشابه يعكس بشكل أفضل مراحل التطور الحديث وتأثيره على تاريخ البشرية.
كانت دنيبرو رمزا للحركة الشيوعية العالمية وفى الثلاثينيات من القرن الماضى، مثلت تلك الفترة انتصار الإنسان على الطبيعة. ولا يزال المرء يتساءل كيف يمكن بناء مثل هذا الهيكل الضخم باستخدام تكنولوجيا العشرينيات؟ وهنا تدخل محطة دنيبرو فى تسلسل الأسطورة الحديثة: لقد أقامها أتباع أيديولوجية هدفها فى المقام الأول التصنيع.
كما يفسر سبب كون روسيا (أساس الاتحاد السوفيتى السابق) هى الدولة التى تجذرت فيها الشيوعية، على الرغم من تنبؤات كارل ماركس. هنا نطرح سؤالًا: لماذا ازدهرت الشيوعية واستمرت فى الازدهار فى أجزاء من العالم كالصين حيث يحدد حجم الدولة أيضًا طريقة التفكير: فكلما كبرت الدولة، أصبح التفكير موحدًا وجماعيًا. وقدم الروس (السوفييت) جهدًا تقنيًا ضخمًا لبناء مشاريع دنيبرو، ومن المؤكد أن هناك عددًا لا يمكن تخيله من الناس ماتوا فى هذه العملية وكانوا المعتقلين، ضحايا التطهير الستالينى.
فى مايو ١٩٤١، عندما اقتربت القوات الألمانية من نهر دنيبرو، تم هدم السد الكهرمائى بالكامل حيث كان السوفييت على استعداد لنسف كل شيء؛ وليس فقط المكان المخصص لإحياء ذكرى آلاف الأشخاص الذين لقوا حتفهم أثناء بناء هذا السد والذى يعد رمز تقدم البلاد وذلك حتى لا يضع الألمان أيديهم على هذه المنطقة.
لكن هذا هو المكان الذى بدأت فيه القصة المأساوية لتوها حيث تظهر الوثائق المكتشفة فى الأرشيف أن السد قد تعرض للتفجير فى ١٨ أغسطس ١٩٤١ باستخدام ٢٠ ألف كيلوجرام من الأمونال. وأحدث الانفجار حفرة ضخمة تدفقت خلالها ٣٣ مليون متر مكعب من المياه. ولم تخبر السلطات السوفيتية السكان أنه وجب عليهم إخلاء المنطقة بأكلمها وجرفت المياه المدن الساحلية الواقعة فى اتجاه مجرى النهر، بما فى ذلك نيكوبول ومارجانيتس. وقتل نحو ٨٠ ألف شخص، إلى جانب ٢٠ ألف جندى لم يتم إبلاغهم بسبب المؤامرة.
لقد كانت الخسائر الألمانية (باستثناء عام ١٩٤٥) دائمًا بنسبة ١ إلى ٦ مقابل الخسائر السوفيتية وفى عام ١٩٤١، خسر الألمان ٨٣٠.٠٠٠ جندى، فيما فقد السوفييت ٦١٠٠.٠٠٠ وذلك بعد خمس سنوات من الحرب.. لذا فإن الاتحاد السوفيتى - إذا لم تكن الجبهة الغربية موجودة – كان سيتعرض للهزيمة لأنه لن يكون هناك من سيدافع عنه.
من المعروف أنه بعد الحرب، فى جميع أنحاء البلاد، لم يكن هناك شباب ولدوا بين عامى ١٩١٧ و١٩٢٤ فلقد كانوا فى مقدمة صفوف الحرب والسبب هو «تكتيكات» الجيش السوفيتى الذى أرهق نفسه فى هجمات دامية: آلاف وآلاف الأشخاص هاجموا دون تغطية تحمى ظهورهم. وقياسا على هذا السيناريو، يتكرر نفس السيناريو اليوم فلقد تجاوزت الخسائر البشرية على جانب الغازى عدد ١٠٠٠٠٠ شخص (طبقا لمصادر بريطانية).
السؤال: هل سيقوم الروس بالفعل بتفجير محطة الطاقة النووية فى زابوريجيا، وهذا بالفعل يعتبر سؤالًا بلاغيًا.. وعلى وجه الخصوص، فإنه يفترض الإجابة.. هذا صحيح: لا يمكن التنبؤ بالمستقبل، ومع ذلك يمكن استنتاج ظواهر معينة خاصة أن الحكومة الروسية الحالية تطمح إلى خلافة الاتحاد السوفيتى بكل ما تعنيه الكلمة.
بوتين يتحدث عن ذلك بشكل قاطع والخلاصة: إذا فجرت السلطات سد دنيبرو دون تحذير أى شخص، فمن المحتمل (على الأرجح) أن يقع نفس الحادث فيما يتعلق بمحطة الطاقة النووية.. عدد الوفيات سيكون أعلى، هذا صحيح، لكن المنطق سيبقى كما هو. ستعتنى موسكو بنخبها فى حين يعانى المواطنون من العواقب، كما حدث فى عام ١٩٤١.
ومع ذلك، كان الوضع فى بداية الحرب العالمية الثانية مختلفًا عن الوضع الحالى. لذلك حدث كل شىء فى صمت. وفى عام ٢٠٢٢، يدرك العالم بأسره خطر انفجار المفاعلات النووية، بما فى ذلك المنظمات متعددة الأطراف، مثل الأمم المتحدة؛ لذلك توجد أدوات ضغط قوية على الاتحاد الروسى ومع ذلك، هذا جانب واحد فقط من التفسير، الجانب العقلانى.. حقيقة، الحروب والكوارث (فى بعض الأحيان) غير عقلانية وغالبا ما تظهر باستمرار نظرية اللاعقلانية فى السياسة الروسية (من راسبوتين إلى دوجين).. فسيناريو الحرب التى تصورها بوتين لم يتوافق تمامًا مع الواقع - لو كان الأمر كذلك، لكانت أوكرانيا قد استسلمت بالفعل - يجب ألا نغض الطرف أو توقع أسوأ بديل ممكن أن يحدث!
معلومات عن الكاتب
سيباستيان ماركو تورك.. دكتوراه فى الآداب من جامعة باريس- السوربون. أستاذ جامعى، متخصص فى الأدب الفرنسى والمؤسس السابق للشباب المسيحى الديمقراطى المناهض ليوغوسلافيا فى سلوفينيا ويقدم بانتظام برامج سياسية وجيوسياسية على التليفزيون السلوفينى. يطرح، هنا، تخوفاته فيما يتعلق بمحطة زابوريجيا للطاقة النووية.