لماذا لا يزال الروس أسياد اللعبة؟
موسكو قوة مؤثرة فى القضايا الدولية رغم القول بأن الحرب فى أوكرانيا «أضعفتها» وباتت «معزولة» و«على حافة الهاوية والانهيار»
قبل شهر، عقد أول اجتماع ثلاثى لأول مرة منذ ١١ عامًا فى موسكو بين وزيرى الدفاع التركى والسورى.. هذا التقارب بين العدوين اللدودين تركيا وسوريا ماذا يعنى لهما وللأكراد وأيضًا لروسيا؟
يوم الأربعاء ٢٨ ديسمبر، عقد اجتماع غير متوقع بين وزيرى الدفاع السورى والتركى، على محمود عباس وخلوصى أكار، بحضور نظيرهما الروسى سيرجى شويجو، فى موسكو وتعتبر هذه هى أول مقابلة رسمية على هذا المستوى بين أنقرة ودمشق منذ عام ٢٠١١، على الرغم من استئناف المناقشات السرية بين أجهزة المخابرات فى البلدين منذ ما يقرب من ثلاث سنوات.
يجب أن نتذكر أولًا أن تركيا بقيادة أردوغان كانت على خط المواجهة، منذ بداية الأزمة السورية فى عام ٢٠١١، عندما قدمت الدعم الثابت للمعارضة المسلحة والمدنية، وخاصة الإسلامية، ضد قوة بشار الأسد وبدعم ضمنى وساذج من الغربيين، كان هدف أنقرة واضحًا: الإطاحة بالرئيس السورى لتنصيب سلطة فى دمشق يهيمن عليها بشكل أساسى الإخوان المسلمون السوريون.
وبالتالى، فإن تركيا، التى استقبلت أيضًا ما يقرب من أربعة ملايين لاجئ على أراضيها، وضعت نفسها كمعارض جيوستراتيجى رئيسى فى المنطقة لروسيا، الأب الروحى وحامى الأسد. ومع ذلك، بعد توترات شديدة، حدث أول تقارب بين أنقرة وموسكو فى صيف عام ٢٠١٦ بهدف عملى لكلتا الدولتين يتمثل فى إجراء محادثات من وراء الكواليس وطريقة عمل ونوع من «التعاون» الروسى التركى على الأرض. منذ ذلك الحين، كانت تركيا قوة احتلال لسوريا بسبب توغلاتها الأربع الضخمة ووجود القوات التركية فى شمال سوريا لمحاربة القوات الكردية، وبالتالى فإن الاجتماع فى موسكو فى ديسمبر الماضى يمثل تحولا رمزيا.
والإعلان عن ذوبان الجليد وعملية تطبيع العلاقات بين دمشق وأنقرة. كانت فرصة لمناقشة ملف إدارة الحدود المشتركة، واللاجئين السوريين، و«الجهود المشتركة لمكافحة الجماعات المتطرفة»، بحسب بيان صادر عن وزارة الدفاع الروسية. وشددت جميع الأطراف على ضرورة «مواصلة الحوار»؛ لذلك يجب أن تستمر المناقشات فى عام ٢٠٢٣ مع خطوة تالية: اجتماع بين وزيرى الخارجية التركى والسورى، أو حتى اجتماع قمة محتمل بين أردوغان والأسد.
سيد روسيا وقوة سورية
خلال تلك العملية الجديدة، من الواضح أن الكرملين لعب دورًا رئيسيًا. كما يظهر أنه على الرغم مما يقوله بعض «الخبراء»، بأن روسيا، » أضعفتها الحرب فى أوكرانيا»، وباتت «معزولة» و«على حافة الهاوية والانهيار»، إلا أنها تزال قوة حتمية ومؤثرة فى العديد من القضايا الدولية. (كما كان الحال فى سبتمبر الماضى خلال الاشتباكات بين أرمينيا وأذربيجان، حيث كانت أحد المبادرين الرئيسيين إلى وقف إطلاق النار) والتى، حتى لو كانت غير مرضية للبعض، لا يزال علينا وضعها فى الاعتبار.
وتظل الدبلوماسية الروسية نشطة وفعالة قبل كل شىء، ومع هذا التقارب، تسعى موسكو، كما أكد المتخصص السورى، فابريس بالانش، إلى «القضاء على حليف للولايات المتحدة فى سوريا، قوات سوريا الديمقراطية (التحالف المسلح بقيادة الأكراد)، وبالتالى تقوية حليفها بشار الأسد». ويضيف الباحث الفرنسى أن السوريين يطمحون إلى استعادة الأراضى فى أيدى الأكراد وثرواتهم النفطية. وبالمثل، كما يشير بالانش بحق، تحتاج موسكو ودمشق إلى الأتراك لتحييد جهاديى إدلب، أى ميليشيا هيئة تحرير الشام (الفرع السابق لتنظيم القاعدة فى سوريا)، التى لا تزال تسيطر على ما يقرب من نصف إدلب.
ما هى العواقب على الأكراد؟
كجزء من حملته الانتخابية المستمرة، التى ستنتهى فى يونيو، يتعرض الرئيس التركى أردوغان لضغوط سياسية شديدة لإجراء عملية عسكرية فى سوريا ونقل أكبر عدد ممكن من السوريين. ولفترة طويلة كانت المنطقة الكردية الحرة والمستقلة كابوسًا لأنقرة لأنها يمكن أن تعطى أفكارًا للجالية الكردية الكبيرة فى تركيا، وقبل كل شيء، أن تكون قاعدة متخلفة محتملة لنشطائها المتواجدين بالفعل على أراضيها. ومنذ تلك الفترة، دائما ما تصف الحكومة التركية المقاتلين الأكراد بـ«الإرهابيين» وشنت عدة هجمات برية ضدهم منذ عام ٢٠١٦. ومنذ هذا الخريف، كثف الجيش التركى قصفه للمواقع الكردية فى شمال سوريا ولا يزال يهدد بشن هجوم برى، ومنعت موسكو تلك العملية العسكرية التركية، بعد مفاوضات مكثفة.
فيما يتعلق بالاجتماع الثلاثى الأخير ووفقًا للضمانات التى حصل عليها الروس من أنقرة، للأسد، ولكن أيضًا فى القضايا الحساسة الأخرى التى تعارضهم (ليبيا والقوقاز وما إلى ذلك)، يمكن للكرملين إعطاء الضوء الأخضر والمجال الجوى السورى المفتوح للقاذفات التركية، وبالنسبة لفابريس بالانش، فإنه يرى أنه فى غضون كل ذلك فإن «الهجوم التركى ليس سوى مسألة وقت» خاصة وأن جولة المحادثات التى قادتها دمشق مع الإدارة الكردية شبه المستقلة، تحت رعاية موسكو، فشلت جميعها حتى الآن، ربما بسبب الضغوط الأمريكية التى تتواجد بشكل كبير فى هذه المنطقة من شمال وشرق سوريا، الغنية بأهم حقول النفط.. على سبيل المثال، إذا رفض الأكراد شروط الانسحاب إلى منطقة تبعد ٣٠ كيلومترًا عن الحدود، فقد يؤدى اجتماع ديسمبر إلى «هجوم جديد».. فى حين أن الأكراد، الذين حاربوا جماعة داعش الإرهابية على الأرض، وخاصة نيابة عن الغرب، رفضوا دائمًا دعم وحماية الروس لصالح الولايات المتحدة. لقد قبلوا الأمر بخجل وبعد فوات الأوان، وذلك عن طريق «الإفراج» والانسحاب الأمريكى منذ ٢٠١٨. الآن، كما قلنا للتو، لا يزال ظل واشنطن يخيم على هذه المنطقة، وبالتالى لن تتردد موسكو فى التضحية بهذا «الشريك» المتردد دائمًا فى خيارات تحالفه خاصة وأن إدارة بايدن - التى تحتاج حاليًا إلى تركيا كثيرًا (خصوصا فيما يتعل باتفاقها النهائى بشأن انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو) - يجب أن تغض الطرف عن التدخل التركى المحتمل والمستقبلى.
مهما كان الأمر، فمن المرجح أن يجد الأكراد أنفسهم بمفردهم فى الأسابيع المقبلة.
معلومات عن الكاتب
رولاند لومباردى حاصل على درجة الدكتوراه فى التاريخ والجغرافيا السياسية والشرق الأوسط والعلاقات الدولية وأحدث مؤلفاته «بوتين العرب» و«هل نحن فى نهاية العالم» وكتاب «عبدالفتاح السيسى.. بونابرت مصر». يطرح رؤيته لتطورات الأوضاع فى سورية خلال الفترة القليلة المقبلة.