الإثنين 23 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

بالعربي

Le Dialogue بالعربي

الدكتور خالد عزب يكتب: مكتبة الإسكندرية.. استعادة روح العلم والتنوع الثقافي

الدكتور خالد عزب
الدكتور خالد عزب
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

المكتبة القديمة كانت تضم كثيرًا من الكتب اليونانية ومجموعة من السجلات المصرية المقدسة وتاريخ بابل والديانات الشرقية المختلفة من فارسية وبوذية
 

مكتبة الإسكندرية الجديدة هي الامتداد والإحياء للمكتبة القديمة التي كانت تُعد من أشهر المكتبات فى العالم القديم والعصور الوسطى، ولذا علينا دائمًا قبل أن نتكلم عن المكتبة الجديدة أن نعطى نبذة عن المكتبة القديمة حيث إنها لم تكن أكبر المكتبات فحسب ولكنها أيضًا اقترنت بالأبحاث العلمية وتردد عليها العلماء من جميع أنحاء حوض البحر المتوسط حتى بعد اندثارها منذ أكثر من ١٦٠٠ عام.
بعد وفاة الإسكندر الأكبر قام قادته بتقسيم المملكة واختار بطليموس الأول مصر ونقل حكمه وإدارته للإسكندرية فى ٣٢٠ ق.م وكان أول من شاء ثراء المقدونيين بإضافته للإسكندرية الفنار الشهير والمجمع العلمى المعروف باسم الموسيون والمكتبة الملكية.
وقد استغرق تشييد بعض هذه المؤسسات التى بدأها بطليموس الأول سنوات امتدت عقدًا أو اثنين أو أكثر ونذكر هنا أن ديمتريوس الفاليرى هو الذى قام بتأسيس مركز الإشعاع الفكرى وهذه الأكاديمية الفكرية، وهو رجل مثقف من أثينا وعمل بالسياسة لفترة من الزمن وعاش ١٠ سنوات مع بطليموس أرسى فيها قواعد فكرة الميوزيم، وقد كلف بمهمة التصميم والتنفيذ نظرًا لخبرته بمكتبة أرسطو فى أثينا. وفى الحقيقة أن المكتبة اشتهرت فى عهد بطليموس الثانى صاحب فكرة إنشاء مركز بحثى كبير فى الإسكندرية وهو ما سيعرف بالموسيون والمكتبة الملحقة به وقد عرف عنه الاهتمام بجمال وفخامة الإسكندرية، كما أن عصره يمثل ذروة فى الرخاء والازدهار ومن بعده بطليموس الثالث الذى اقتفى خطوات أبيه وجده فى جمع الكتب واستخدام وسائل لا يمكن أن يقره عليها أحد اليوم. فقد أمر بأن يسلم كل مسافر مار بالإسكندرية كل ما لديه من كتب لضمها إلى المكتبة، وكذلك اجتذبت فرص العمل والشهرة والثروة فى الإسكندرية أعدادًا كبيرة من مهاجرى بلاد البحر المتوسط وأكثر من اليونانيين. وحتى الآن لم يتم تحديد تاريخ إنشاء المكتبة والموسيون، لكن من المرجح أن سوتير- هو أول من اتخذ الإجراءات بشأن إنشائهما فى حوالى ٢٩٠ ق.م. ثم استكملهما من بعده بطليموس فيلادلفوس، فمن المعروف إنهما قد ازدهرتا إبان حكم فيلادلفوس. 
ويتفق الموسيون فى تخطيطه مع ما كان معروفًا فى التخطيط الأساسى للمدرستين الفلسفتين الشهيرتين فى أثينا، ويصفه «سترابون» بأنه يقع فى منطقة القصور الملكية وله ممشى ورواق به عقود للطعام لأعضاء الموسيون وهم يشكلون جماعة واحدة لهم ملكية مشتركة ومعهم كاهن يعينه الملك وهو رئيس الموسيون مما يؤكد السمة الدينية للموسيون وليس لدينا تفصيلات أخرى عن الأسلوب المعمارى للبناء فوق ما ذكره سترابون.

ونلاحظ أن اسم الموسيون لا يخلو من دلالة، فقد انتشر وجود معبد ربات الفنون والمعارف (موساى) فى المدارس الفلسفية الأثينية حيث كانت هذه الربات مصدرًا للوحى فى الفلسفة والفنون، وسنجد الجمع بين دراسة العلم والأدب متمثلًا فى موسيون الإسكندرية، وقد نما نموًا سريعًا وحاز شهرة عالمية خلال سنوات قليلة من تأسيسه ويرجع ذلك لحرص البطالمة على استقدام أرقى العقول فى ذلك الوقت. وقد استمر الموسيون فى العصر الرومانى ولكن بدرجة أكبر بوصفه مؤسسة تعليمية زاد فيها أيضًا الاهتمام بالفلسفة عن عصر البطالمة. أما بالنسبة للمكتبة الملكية فكانت مرتبطة بالموسيون ومتاخمة له فى حى القصور الملكية مشرفة على الميناء، ولكن حين تكاثرت الكتب فى هذه المكتبة تقرر إنشاء مكتبة صغرى بمثابة فرع للمكتبة الرئيسية لتضم الأعداد المتزايدة من الكتب. وألحقت المكتبة الابنة بالسرابيوم، أو معبد الإله سيرابيس، الواقع فى الحى المصرى جنوبى المدينة.
وفيما يتعلق بالكتب فقد اشتهر البطالمة برغبة ملحة وسعى دؤوب فى اقتناء الكتب لمكتباتهم سواء بالشراء أو النسخ فقد ورد أن عدد الكتب فى المكتبة الخارجية كان يبلغ ٤٢٨٠٠، وفى المكتبة الداخلية ٤٠٠٠٠٠ من الكتب المختلطة و٩٠٠٠٠ من الكتب غير المختلطة.
وكانت المكتبة تضم كثيرًا من الكتب اليونانية، إلى جانب مجموعة من السجلات المصرية المقدسة، وتاريخ بابل والديانات الشرقية المختلفة من فارسية وبوذية، وكانت كلها تترجم إلى اليونانية، التى كانت هى اللغة الرسمية للدولة.
 

كما كان هناك سجل مستمر بأحدث مقتنيات المكتبة وفهرست تفصيلى لمساعدة القارئ وإرشاده للكتاب الذى يطلبه، لكن هذا البيان لم يكن كافيًا فكانت الحاجة إلى دليل علمى ونقدى يبين القيمة العلمية للكتب والمؤلفين فى شتى المجالات وقد اختير «كاليماخوس» لهذا العمل الضخم فقد كان عالمًا توفرت له معرفة موسوعية مع طاقة لا تنفذ فألحق بالقصر وكلف بهذا المشروع الذى تبلور باسم «بيناكس» ومعناها السجلات أو الفهرست. وقام تقسيمه الأساسى حسب الموضوعات: بلاغة، قانون، شعر، تراجيديا، كوميديا، شعر غنائى، طب، تاريخ، رياضيات... وتحت كل موضوع رتبت أسماء المؤلفين أبجديًا، ويلحق كل مؤلف سيرة مختصرة لحياته وعرض نقدى لمؤلفاته، وأصبحت هذه السجلات نموذجًا يحتذى به فى الأعمال اللاحقة امتد تأثيره للعصور الوسطى.
وبتأسيس الموسيون والمكتبة توفرت فى الإسكندرية الشروط الأساسية لقيام حركة علمية سليمة تعتمد على أصول البحث العلمى فى مجالات متعددة، وكان العصر مهيأ وقادرًا على دفع التجربة العقلية خطوات جديدة عملاقة فى الفن وشعر الملاحم والدراما والفلسفة والدراسات اللغوية والأدبية والعلمية، والدراسات فى هذه المجالات لم يكن ممكنًا ممارستها بكفاءة عالية دون إرساء تقاليد البحث العلمى المتصل فى ظل الرعاية التى كفلها للعلماء الملوك الهيلنستيين المتنافسين. فأمكن إرساء قواعد منهج للبحث العلمى على أسس راقية فى علوم متعددة أدى لبلوغ نتائج باهرة فى الرياضيات والطبيعة والطب والجغرافيا والفلك وفى نقد النصوص الأدبية وقد كانت الثروة الضخمة من الكتب التى توفرت تحت أيدى هؤلاء العلماء أداة لازمة للعمل الجاد، حيث جمعت لأول مرة خبرات اليونان الكلاسيكية مع الشرق الأدنى القديم. ويجب الإشارة أن من تولى منصب رئيس المكتبة كان أيضًا من العلماء النابغين الذى تميز كل منهم فى مجال معين وأضاف للعلم أو الأدب اجتهادا واكتشافا عظيمًا مثل «أرستارخوس» الذى كان أول من قال إن الأرض تدور حول الشمس، كذلك «أراتوسنثيس» الذى كان مديرًا للمكتبة وأثبت كروية الأرض وحسب محيط الكرة الأرضية بدقة ٩٠ كم تقريبًا وغيرهما كثيرون. وكثيرًا ما كانت إنجازات مدرسة الإسكندرية بالغة الدقة أو التعقيد ولكنها رائعة منها ما تميز بالخبرة والأصالة. بالإضافة لأن بعض الأعمال الرائدة جاءت مخالفة للمألوف فى بعض المجالات وفاجأت المعاصرين بغرابتها فمثلًا كانت للأدب الفكاهى شعبية كبيرة. أما الناحية العلمية حققت إنجازات عظيمة فى عدد من العلوم كان للإسكندرية فيها دور الريادة والقيادة. وهذا النمو فى الحركة العلمية كشف عن الشخصية المستقلة للمدرسة السكندرية. حتى عند دخول المسيحية وانتشارها ونمو حركتها نجد التيارات الفلسفية التى تخدم الناحية الدينية قد انتشرت وظهرت عدة تيارات فلسفية ودينية بين أرجاء الإمبراطورية الرومانية ما بين الوثنية والمسيحية، لدرجة أنه فى ذات العقيدة المسيحية كانت هناك للإسكندرية دور كبير واتجاه فلسفى دينى. فقد تبوأت الإسكندرية مكانًا رائدًا فى الدين الجديد واكتسبت شهره عالمية بفضل أساتذتها المرموقين، واستمر التلاميذ يفدون إلى الإسكندرية للالتحاق بالمدرستين معًا الوثنية والمسيحية. كما أن هناك ظاهرة أخرى لها دلالتها فى الوسط الأكاديمى وهى أن كثيرًا من المصريين الذين جاءوا للدراسة انتهى بهم الأمر للالتحاق بهيئة التدريس. وكانوا يظهرون اعتزازهم وفخرهم بانتمائهم إليها.
أما عن مصير ثروة مكتبة الإسكندرية من الكتب فيأتى التساؤل بشأنها، فلا يوجد ثمة خلاف فى إنها دمرت أو اندثرت. ولكن كيف؟ وهل بقيت للقرن السابع الميلادى حتى فتح العرب مصر؟ أو إنها اندثرت قبل ذلك؟ إن الشواهد التاريخية بين أيدينا حتى الآن ليست حاسمة وتعتمد على تحليل النصوص الأصلية والاستنتاجات التى توصل لها القدامى. 
فبرغم التناقض الجوهرى بين الدراسات المختلفة التى تناولت مصير مكتبة الإسكندرية، إلا أنه من الممكن تتبع تاريخ اندثارها على مدار ما يقرب من ٤٥٠ عامًا. فقد نشب أول حريق عام ٤٨ ق.م. إبان حرب الإسكندرية والتى تدخل فيها يوليوس قيصر لمساعدة كليوباترا ضد أخيها بطليموس الثالث عشر.
وتذكر بعض المصادر أنه فى عام ٤٨ ق.م. احترق ما يقرب من ٤٠ ألف كتاب، وتؤكد روايات أخرى أن عدد الكتب آنذاك كان ٤٠٠ ألف كتاب.
ولقد أهدى مارك أنطونى حوالى ٢٠٠ ألف لفافة للملكة كليوباترا من برجاما. وفى القرن الثالث الميلادى، تم تدمير الموسيون والحى الملكى إبان الاضطرابات والصراعات على السلطة التى هزت أرجاء الإمبراطورية الرومانية فى ذلك الوقت. أما المكتبة الصغرى فقد ظلت تقوم بدورها حتى نهاية القرن الرابع. وحينما أعلنت المسيحية الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية، أصدر الإمبراطور ثيودوسيوس مرسومًا فى عام ٣٩١ ميلادية يقر هدم كل المعابد الوثنية بالإسكندرية. ومن ثم اضطلع الأسقف ثيوفيلوس (أسقف الإسكندرية من ٣٨٥ وحتى ٤١٢ ميلادية) بتلك المهمة، فقام بهدم السرابيوم والمكتبة الملحقة به بصفتهما معقلين للوثنية. وتردد جيل أخر من العلماء على المدينة حتى مقتل هيباتيا فى ٤١٥ ميلادية.
والآن وبعد كل هذا التاريخ الطويل، تم التفكير فى إعادة بناء المكتبة من جديد كمبنى من المبانى الذكية والمتميزة التى أصبحت سمة من سمات عصر التقدم التكنولوجى المذهل الذى يعيشه العالم الآن لأن مصر ستظل دائمًا لا تعرف سوى التقدم والبناء وعودة الروح. وهاهى بعد قرون عديدة تعود لإحياء ما طواه الزمان كعادتها دائمًا عبر تاريخها الطويل، جاءت المكتبة الجديدة منذ افتتاحها عام ٢٠٠٢ لتعبر عن رؤية مصر لقضايا الثقافة والعلم، وتنبت عبر عدد من الحوارات قضايا حرية الرأى والتعبير، فكان منتدى الإصلاح العربى ثم برنامج مكافحة التطرف والارهاب فكريًا، ثم منهجية المصادر المعرفية المفتوحة المصدر منهجًا عبر الإتاحة المجانية لما يزيد على ٢٥ ألف كتاب على موقعها للقراءة، كان تفاعل المكتبة مع العالم كبيرا إذ تلقت ألاف الكتب كهديا، لكن الإهداء الأكبر كان من فرنسا التى أهدت المكتبة مليون كتاب من المكتبة الوطنية الفرنسية، وهو ما أكد فاعلية مشروع المكتبة للنشر متعدد اللغات حيث نشرت المكتبة كتبا باللغات العربية، الفرنسية، الايطالية، الاسبانية، الألمانية وغيرها، وكان التحدى الحقيقى أمام المكتبة هو قدرتها على الاستجابة للتحول فى دور ووظيفة المكتبات فالأن المكتبات مؤسسات لإنتاج وإتاحة المعرفة ولذا أسست المكتبة مراكز بحثية وأطلقت عددًا من البوابات الرقمية لإتاحة المعرفة. ولكى تكون هذه المعرفة أكثر إتاحة، جاء موقع المكتبة الرقمى باللغات العربية والفرنسية والانجليزية وهو ما جعل عددًا من المؤسسات الدولية يسعى للشراكة مع المكتبة فهى شريك فى المكتبة الرقمية الدولية، وعضو فاعل فى الاتحاد الدولى للمكتبات الرقمية، ولديها العديد من المشاريع التى تعكس قدرات فريقها البحثى وفريق تكنولوجيا المعلومات مثل المكتبة الرقمية للنقوش والكتابات وموقع ذاكرة مصر، كما أن لديها عددًا من المشاريع الطموحة مثل مشروع ذاكرة العرب ومشروع بوابة اللغة العربية، كما تستعد لإطلاق مشروع للترجمة الفورية رقميًا من أى لغة إلى اللغة العربية ومن اللغة العربية لأى لغة، تخطت مكتبة الإسكندرية كل هذا إلى تقديم العديد من الخدمات الرقمية للباحثين الأفارقة.
إن هذا كله يقودنا إلى تصحيح معلومات خاطئة، فما يُعتقد أنه المسرح الرومانى فى الإسكندرية ما هو إلا قاعة المحاضرات الكبرى للمكتبة القديمة حيث كان عالم الرياضيات أقليدس يلقى محاضراته وحيث ألقت عالمة الرياضيات الشهيرة آخر محاضراتها قبل سحلها فى شوارع الاسكندرية، واكتشف إلى جوار المسرح الرومانى قاعات الدرس فى المكتبة القديمة، وهو ما يضع على عاتق المكتبة الجديدة عبئا يقود إلى الحاجة لمزيد من العطاء.



معلومات عن الكاتب

الدكتور خالد عزب باحث متخصص فى التراث، شغل منصب رئيس قطاع المشروعات الخاصة فى مكتبة الإسكندرية، عضو المجلس الدولى للمتاحف، صدر له 50 كتابًا، حصل على جائزة أفضل كتاب فى الوطن العربى عام 2014، عضو فى عدد من الجمعيات العلمية، حاضر فى جامعات طوكيو واكسفورد وليبزج وغيرها. يصل الماضى بالحاضر من خلال استعراض تاريخ مكتبة الإسكندرية القديمة، وما تمثله المكتبة الحديثة من منارة تشع علمًا وحضارة على العالمين.