الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

رقصة فاطمة وعصا نادر.. وعظمة مصر

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

  سعدت وتشرفت بالمشاركة فى أول حفل فى المتحف المصري الكبير، والذى نشتاق إفتتاحه ويترقبه العالم كله.. تلك المشاركة فى إطار حفل جماهيرى ضخم، وتعاون متميز بين بنت مصر السوبرانو فاطمه سعيد التى إستطاعت أن تصل بإبداعها وصوتها الملائكى إلى العالم، والمايسترو الفنان ذى الكاريزما الخاصة جدا نادر عباسى، وأوركسترا الإتحاد الفلهارمونى الذى أسسه، ويضم أمهر العازفين الذين يجدون ويجتهدون فى محراب الفن، ليظلوا فخر مصر، وربما لا يعلم الكثيرون أن العمل فى الأوركسترات عمل شاق للغاية وصارم صرامة الجيش، لا تهاون فيه فى موعد ولا أداء، ويتطلب التدريب لساعات طويلة للحفاظ على المستوى اللائق لدارسى الموسيقى الكلاسيكية العالمية.

 ومنذ دبت أقدامنا المتحف شعرنا بالفخر بمصريتنا وعراقتنا، وعندما بدأ المايسترو فى القيادة وخلفه تمثال رمسيس شعرت أنى خرجت من زمنى إلى زمن قدماء المصريين، ولم أشعر بإختلاف بين وجه رمسيس ووجه نادر بملامحه المصرية الدقيقة، وأعتقد أن تلك المشاعر عمت كل الأوركسترا، ورغم المجهود الضخم فى البروفات إلا أن الفرحة والسعادة كست الوجوه.. ورغم أننى نادرا ما أكتب عن الحفلات التى أشارك بها، مع إعجابى وفخرى بأغلبها، إلا أننى شعرت برغبة حقيقة فى الكتابة عن هذا الحفل تحديدا، بمجرد الإنتهاء منه، لأننى تمنيت أن يشعر الجميع بالمشاعر الرائعة التى إنتابتنى كمصرية، والسعادة والفخر بالمكان والإنسان.. وأعتقد أن كل من حالفه الحظ بالتواجد ذاك اليوم، شاركنى ذلك الإحساس.. فمزج الإبداع والفن الجاد من فنانين غاية فى المهارة والدقة والحرفية، مع آثار قدماء المصريين العملاقة المبهرة، فى ذلك البناء الحديث الشاهق الشامخ الفاخر، والمبهر فى كل شىء فى تفاصيله وعظمته، تعيد إلينا الثقة بقدرات المصرى على الإبداع على مر العصور، وتستحث الإنتماء الموجود داخلنا، وخاصة فى ظل الظروف الراهنة، والأزمة الإقتصادية الصعبة التى تحبط الكثيرين، وتحتاج لصحوة روح الصمود والعزة والثقة.. لم تمر ساعات قليلة بعد الحفل المبهج المبهر، حتى وجدنا بعض الصفحات الشخصية على الفيسبوك لموسيقيين، تشن هجوما حادا على الحفل!.. مع نشر لمقطع صغير تم تداوله بكثرة عقب الحفل إعجابا به من الجمهور.. المقطع لأغنية "مصر هى أمى"، والتى إختارت فاطمة أن تغنى نسختها الأصلية، التى غناها الفنان فؤاد المهندس فى فيلم "فيفا زلاطة" عام ١٩٧٦.. وقد روت فاطمة قبل أن تغنيها قصة الأغنية، وكيف كانت تعبيرا عن حب بطل الفيلم لمصر، وشرحه عنها لمن لا يعرفونها ويتساءلون عن معناها فى البلدة التى يعيش فيها.. وكان التوزيع الموسيقى الجديد للأغنية والذى أعده مؤلف إنجليزى يحاكى الأغنية الأصلية، والتى تتضمن كلماتها "فاتك نص عمرك ياللى ما شفت مصر.. ده التاريخ بمصر.. والهرم بمصر.. والكرم بمصر.. والحلوين بمصر.. والجدعان بمصر.. أدونى عصايا أرقص رقص مصر".. تغنت فاطمة بكل مشاعرها بتلك الكلمات الصادقة التى كتبها الرائع عبد الوهاب محمد ولحنها المبدع الأرستقراطي كمال الطويل، وحاكت أيضا رقصة المهندس بالعصا فى الفيلم خلال هذا المقطع الذى إستغرق ثوانٍ معدودة.. وكانت الأغنية بالغة التأثير والروعة فى كل من حضر الحفل، وإستشعر مدى ملاءمتها وإتساقها مع المكان والحدث.. ولكن!!.. تناقل البعض هذا المقطع، وإعتبروا الرقص بالعصا وتفاعل المايسترو مع الجمهور وقيادته لتصفيقهم؛ إبتذالا وإنسياقا للذوق الشعبى السائد وجريمة فى حق الموسيقى الكلاسيكية والغناء الأوبرالى الرصين!!.. ورغم إيمانى الكامل بإختلاف الأذواق وتنوعها، وعدم الحجر على أى رأى أو ذوق، إلا أن ما حدث ليس نقدا أو تعبيرا عن رأى، وإنما حكم بالغ الظلم والإجحاف، لأن أول مبادئ النقد الموضوعى أن ترى العمل كاملا دون إجتزاء، وهذه الأغنية لم تكن سوى عمل ضمن عشرين، فقد عزفت الأوركسترا ستة أعمال دون غناء، وغنت فاطمة أربع عشرة أغنية تضمنت أغنيات غاية في الصعوبة لروسينى وبوتشينى وغيرهما، ولم تغن سوى خمس أغنيات مصرية من ضمنهم تلك الأغنية الرائعة التى تطلبت كلماتها الرقص بالعصا لثوانى معدودة!.. وهذا للعلم لم تبتدعه فاطمة وليس إختراعا جاءت به، فهناك الكثير من مغنيات الأوبرا فى العالم يرقصن أثناء الغناء مع الأوركسترا إذا كانت الأغنية تتطلب ذلك، أو يحاكين نفس الحركات التى يفترض أن يقومن بها فى الأوبرا الأصلية، سواء برقص أو مشاهد تمثيلية، ولا يمكن أن يهاجمهم أحد عن ذلك.. وهناك العديد من التسجيلات المتاحة على اليوتيوب لأوركسترات حول العالم، وكبار قادة الأوركسترا وصوليستات الغناء الأوبرالى، وهم يفعلون نفس الشئ دون أن يتهمهم أو يهاجمهم أحد.. فمثلا عادة ما ترقص مغنيات الأوبرا فى أغانى المؤلف المجرى النمساوى فرانز لهار، مثل أغنية “شفتاى” من العمل الاوبرالى جوديتا، والذى لا تكتفى بعضهن بالرقص فيه فقط، بل يتركن المسرح ويرقصن بين الجمهور.. كذلك نرى الكثير من الحركات الطريفة التى يفعلونها دون غضاضة، مثل قيام مغنية أوبرا بالتمثيل أثناء الغناء وفى نهاية الأغنية تقوم بحركة جمباز وهى مرتدية فستان سوارية.. نرى أيضا بعض الأعمال الأوركسترالية التى تسمح لقائد الأوركسترا بمداعبة الجمهور، مثل “رقصة الكوميديين" للمؤلف التشيكى سمتانا.. كذلك العمل الأوركسترالى “كان كان" من أوبرا أورفيوس الكوميدية للمؤلف الألمانى الفرنسي جاك أوفنباخ، ومؤلفة يوهان شتراوس الشهيرة "رادتسكى مارش" والتى عادة ما يقوم فيهما قائد الأوركسترا بقيادة تصفيق الجمهور، بنفس الحركة التى قام بها نادر، فهو لم يبتكرها كما يظن البعض، بل أصبحت وكأنها حركة تقليدية يقوم بها قادة الأوركسترا حول العالم حينما يتطلب أحد الأعمال ذلك.. وقد إعتاد أوركسترا القاهرة السيمفونى تقديم "رادتسكى مارش" فى حفلة رأس السنة كل عام منذ سنوات طويلة، ويقوم فيه عازفو الأوركسترا بإرتداء (طراطير وماسكات) إحتفالا بالعام الجديد، ويقومون أثناء العزف بالوقوف، كل ذلك أثناء تصفيق الجمهور الذى عادة ما يقوده المايسترو.. يحدث ذلك كل عام دون أن يتهم أحد الأوركسترا بالعبث أو التقليل من هيبة ورصانة الأوبرا!.. وللعلم كانت كل الأغانى التى غنتها فاطمة من إختيارها، وفكرة الرقص بالعصا - والتى أجدها ضرورية - كانت فكرتها.. ولا أعتقد أن فى أى بلد كان يمكن أن يتعرض مغنى أوبرا أو مغنية لهجوم، لقيامهم بأداء حركات راقصة من الفلكلور أثناء أداء أغنية تعبر عن هوية معينة!.. ويقينى أن كل من حضر الحفل وإستمتع بتتابعه وتنوعه، ولمس مدى إحترافية وجدية ومهارة فاطمة ونادر على مدار الحفل، لا يمكن أن يُكوٖن شعورا سلبيا تجاه الحفل، أو تلك الأغنية التى لمست قلوبنا جميعا حينها.. ربما يصعب على من لم يحضر الحفل إستحضار روح المكان وطاقته، والتى أيقظت داخلنا الشعور بالعزة والفخر بالماضى والحاضر وبالأمل فى المستقبل.. ولكن أتمنى أن نشعر بالجمال حين نجده، ونتوقف عن جلد الذات، وكأن قلوبنا وعيوننا تأبى أن ترى إلا السواد.. ولن أجد أبلغ ولا أرق من كلمات الأخ والصديق الجنرال عمر أبو رمان إبن الأردن الحبيب، تعليقا على ما كتبته عن الحفل على الفيسبوك: (لقد زرت المتحف، ووجدته إستنطق الزمان وأبهر المكان، شاهد على حضارة حاضرة، تغفو على جنبات النيل بإنسانه النبيل، أقول: من لم ير الشمس فى مصر مشرقة، لا ذنب للشمس بل خانه النظر).