«آه يا ثومة من عشقك.. إن جبالًا خارت وعقولا تاهت وقلوبًا ذابت ولم ينجو أحدًا من عشقك.. لقد حير صوتك الجميع واستعبد الجوارح دون تفسير سوى أنك معجزة الدهر وآية للكمال».
لقد حاول العلم أكثر من مرة فهم فردية صوتك لكنه عجز، فليس معقولاَ أن لا تكون هناك نسبة للنشاز، وليس معقولًا أن تكون أوتار حنجرتك هي السلم الموسيقي، لكن المستحيل معك بات معقولا «ومهما درات الأيام مستحيل قلبي يميل ويحب غيرك أبدا، ومهما دارت الأيام، ستبقي سلطانة الطرب في «كل ليلة وكل يوم».
سبق وكتبنا عن أن أم كلثوم أنها كانت بوابة معرفة الجماهير بالعديد من الشعراء، وأن نشأتها وحفظها للقرآن جعل الحرف طوعًا لها وجعلها صاحبة ذائقة عالية في اللغة، ففارقها النشاز صوتًا وكلمةً ولحنًا، لذا كانت تُبدل مواضع الكلمات وتستبدل معانيها حسب موسيقاها الداخلية، ولم يمانع الشعراء من ذلك ليس نزولًا على رغبتها ولكن اقتناعًا بأنها الأقرب إلى جمهورها والأدرى بذائقته، وإذا كان هذا الأمر سهلًا على البعض إلا أن هناك من يعتبر القصيدة ابنته ولا يقبل المساس بها وهنا تقف عقارب الساعة، فثومة لم تكن بعيدة عن ما تغنيه بل كانت هي بطلة قصائد شعراءها في عنادها وكبريائها وهجرها وخصامها وصفائها وإن طال الخصام لسنوات فمثلها يحتاج وقت لتُذيب جبال الغضب وهناك أكثر من موقف حدث لها مع شعراء وملحنين، وهنا نذكر الشاعر مأمون الشناوي الذي رفض تعديل كوكب الشرق على كلمات إحدى قصائده فابتعدا 20 عامًا عن التعاون، حتى أنه قال عن نفسه: «لولم أكن مجنونًا ومغرورًا لتغنت أم كلثوم بشعري منذ عشرين عامًا».
أنساك ده كلام
أنساك يا سلام
أهو ده اللي مش ممكن أبدًا
ولا أفكر فيه أبدًا
أهو ده اللي مش ممكن أبدًا
يبدو أن هذا الشطر من القصيدة كان رد الشاعر مأمون الشناوي على كوكب الشرق بعدما عرض عليه قصيدته وطلبت بعض التعديلات، ليخرج من بيتها مهمومًا ويعطي كلماته لفريد الأطرش وتمر السنوات ويعود للقائها فيقف عند حدود الاختلاف ولا يتجاوزها أحدًا منهما، حتى يأت اللقاء الثالث في عام 1957 بقصيدة «أنساك» والتي بدأها مأمون الشناوي بـ:
إياك فاكرني أحب تاني
وأحب إمتى وإنت اللي عارف
أول وآخر الحب إنت
دمعي وابتسامي شوقي وحناني
قرأت «ثومة» القصيدة وكانت لها وجهة نظر منطقية، إذ قالت هذا دخول في الموضوع بلا مقدمة، يعني يا أستاذ مأمون الرواية إنت بدأتها من الفصل التاني»، واقتنع بوجهة نظرها وبدأت تحذف بعض الأبيات ويٌعدل شاعرنا بعض الأبيات حتى أنه أعاد صياغة القصيدة كاملة وخرجت القصيدة للنور، وكتب بعدها «كل ليلة وكل يوم» وأبدع في تلحينها العبقري بليغ حمدي:
كل ليلة وكل يوم أسهر لبكرة
في انتظارك ياحبيبي
فكري طول الليل في ليلك
والنهار كله في نهارك يا حبيبي
يا ترى يا وحشني بتفكر في مين
عامل إيه الشوق معاك
عامل إيه فيك الحنين
وكانت هذه القصيدة عام 1964 ثم تلاها «بعيد عنك حياتي عذاب 1965 من تلحين بليغ حمدي، وأخيرا ودارت الأيام 1970 تلحين موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، والتي كُتب عنها الكثير، لكن أبلغ ما قيل جاء على لسان أستاذ القلب المفكر الطبيب محمد الجوادي الذي قال: « بمثل هذه الكلمات القليلة الفائقة القدرة على التعبير تقدم أم كلثوم عملًا نجح صاحباه مأمون الشناوي ومحمد عبد الوهاب في أن يحملاه بأكبر قدر ممكن من التعبير والتطريب والتحوير والتدوير حتى إن اسم الأغنية نفسها لا يعني أن الأيام وحدها هي التي دارت، وإنما دارت معها المشاعر والألحان والأنغام والغناء والأداء.. كل هذا يدور في أغنية هي أبلغ تعبير عن حال الدنيا التي تدور حين ننظر إليها من اللحظة التي نحبها فيها، مع أننا نعلم بحكمة العشاق أن دنيانا تشمل هذه اللحظة، وغيرها من لحظات الهجر والفًجر، ولهذا كله يستحضر الكلثوميون هذه الأغنية إذا أرادوا الوهج، ويستحضرونها إذا أرادوا الغياب وهم متوهجين، ومن العجيب أن مأمون الشناوي قد قبض على هذا كله وقبض علينا به ومعه».
ودارت الأيام ومرت الأيام
ما بين بعاد وخصام
وقابلته ونسيت إني خاصمته
ونسيت الليل اللي سهرته
وسامحت عذاب قلبي وحيرته
ما أعرفش إزاي أنا كلمته
ما أقدرش على بعد حبيبي
أنا ليا مين إلا حبيبي
يستحق منا مأمون الشناوي التدبر والتأمل والتصفيق حيث أبدع في السهل الممتنع وأجاد في انتقاء الكلمات، ولما لا وهو الصحفي والشاعر الزجال الذي كتب كل الصنوف حتى وصل إلا الألف أغنية فجرت كلماته على حناجر العديد من المطربين ونُقش اسمه، في سجلات التاريخ، وفي حوار أجره نجله ناجي مأمون الشناوي لجريدة الأهرام ذكر العديد من الأسرار عن علاقة والده بالمطربين وقال فيما يخص ثومة: «عندما كان أبي صحفيا صغيرا فى بداية حياته فى روزاليوسف، دخل عليه عمدة من أسيوط حاملًا بين يديه ورقة من محكمة تقول أنه كسب قضية بضم السيدة أم كلثوم إبراهيم البلتاجى إلى بيت الطاعة، فما كان من مأمون إلا ونشر الخبر مرفقة به صورة الحكم، فغضبت الست ورفعت قضية على روزاليوسف وفى أول جلسة ذهب مأمون إلى المحكمة بحكم أنه المحرر الذى نشر الخبر وشهدت غرفة المحامين اللقاء الأول عندما اختارته «ثومة» والتى لم تكن تعرفه وسألته هى الجلسة هتبدأ إمتى؟ وكانت متوترة جدًا، فرد عليها عندما نظر إلى يديه وكأنه ينظر إلى ساعته التى لم يرتدها طوال حياته: تقريبًا الساعة 9 فردت لا أعتقد 10، ومن تلك القفشة تعرفا وأصبحا أصدقاء».
وعن حكاية حكم الطاعة يقول «ناجى» القصة فيها جزء حقيقى وآخر ليس حقيقيًا، الست فعلا اسمها أم كلثوم لكن ليست هى خاصة فكوكب الشرق اسمها الحقيقى فاطمة».
ويواصل «ناجي» حديثه عن الفترة التى أُبعد فيها والده عن معشوقته الصحافة فى الستينيات قائلا: «الجميع ابتعد عن والدي لم نكن نسمع رنين هاتف منزلنا إلا من أشخاص محددين على رأسهم عمى كامل ومنهم السيدة أم كلثوم التى كانت تتصل دومًا وفى إحدى المرات قالت له فور سماع صوته»: إنت نستنا ولا إيه يا مأمون» فرد عيها قائلًا: أنساك ده كلام، فقالت له أنا عاوزة دى».
ويقول ناجي عن قصة تلحين «أنساك»: «لهذه الأغنية قصة طريفة عندما رشح لها الراحل محمد فوزى فكانت النهاية على يد بليغ حمدي، والحكاية أن فوزى بالفعل لحن الكوبليه الثانى منها «كان لك معايا أجمل حكاية فى العمر كله» وكان هو وبليغ عند كوكب الشرق فى المنزل وبينما كان فوزى يتحدث لثومة، أكمل بليغ اللحن فنال إعجاب فوزى، الذى بدوره صمم على أن يلحنها بليغ قائلًا للست: لحنها أحسن مني».
كان لك معايا
أجمل حكاية في العمر كله
سنين بحالها ما فات جمالها
على حب قبله
سنين ومرت ذي الثواني
في حبك إنت
كل العواطف الحلوة بينا
كانت معايا حتى في خصامنا
وإزاي تقول أنساك وأتحول
وأنا حبي ليك أكتر من الأول