أيام قليلة تفصلنا عن الإحتفال بمرور ١٠٠ عام على أعظم كشف أثرى فى التاريخ وهو الكشف عن مقبرة فرعون مصر الصغير توت عنخ آمون، والذى أُشتهر أيضًا باسم الفرعون الذهبى وكذلك بالاسم المختصر الملك توت. وبهذه المناسبة الفريدة التى تأتى مرة واحدة فى العمر فليس أفضل من الكتابة عن محطات مهمة فى هذا الكشف لتعريف الناس بالظروف والأحداث المثيرة التى وقعت قبل وأثناء وحتى بعد الإعلان عن الكشف عن المقبرة الذهبية للملك توت عنخ آمون. تلك الأحداث كثيرًا ما تغفل عنها الكتب والمقالات بسبب أن بريق الذهب وجمال الكنوز المكتشفة بالمقبرة دائمًا ما يتوارى خلفها كل شئ آخر.
وفى البداية، لابد من الحديث عن الرجل الذى كشف عن المقبرة وسجل اسمه فى التاريخ إلى جوار اسم الملك توت عنخ آمون. وهو المكتشف الإنجليزى هيوارد كارتر والذى ساقه القدر من مزرعة فقيرة فى قلب إنجلترا إلى مصر ليكون على موعد مع أعظم إكتشاف أثرى فى التاريخ.
ولد هيوارد كارتر فى ٩ مايو من عام ١٨٧٤ فى منزل متواضع بأحد أحياء لندن لأب هو صمويل كارتر رسام بجريدة أخبار لندن المصورة وزوجته هى مارتا جويس وقد أنجبا عشرة من الأبناء وإبنة وحيدة وكان ثلاثة أخوة لهيوارد كارتر قد رحلوا عن الحياة قبل مجيء أخيهم هيوارد إلى الدنيا. ولد هيوارد ضعيف البنية معتل الصحة واعتقد الأب والأم أن هذا المولود الضعيف لن يعيش طويلًا ولذلك قررا إرساله إلى عمتيه ليعيش معهما فى منزل العائلة الريفى بعيدًا عن لندن، لعل جو الريف ينجيه من المصير المحتوم!
لم يكن لدى هيوارد كارتر أية مهارات سوى موهبة الرسم التى ورثها عن أبيه وكذلك أخيه وليام كارتر والذى كان هو أيضًا رساما بارعا. لم يتلق كارتر أى تعليم نظامى واعتمد على مدرسة الحياة كما ذكر هو نفسه فى مذكراته، وإن كان قد تعلم مبادئ القراءة والكتابة والحساب فى مدرسة تطوعية تديرها بعض النسوة لتعليم أبناء الفقراء. يؤكد ضعف المستوى التعليمى والثقافى لهيوارد كارتر الأخطاء الإملائية والإنشائية فى خطاباته الأولى التى كان يرسلها من مصر عندما أتى إليها وهو شاب صغير برعاية من عائلة آمهارست الشهيرة.
البارون وليام أمهارست هو رجل أرستقراطى له ولع بالفنون والآداب استطاع أن يمتلك مكتبة ضخمة تضم آلاف الكتب والتحف النادرة ومنها برديات وآثار مصرية جمعها طوال حياته وكان له خمس بنات من زوجته مارجريت يعشقن التاريخ المصرى القديم والآثار الفرعونية، وبالطبع تعرف عليهن هيوارد كارتر من خلال أبيه الذى قام برسم بورتريهات للعديد من أفراد عائلة البارون أمهارست. وعندما تم إذاعة أنباء عن قيام لجنة صندوق استكشاف مصر بتشكيل بعثة أثرية مهمتها تسجيل آثار مصر الوسطى بقيادة الأثرى نيوبرى، كتبت السيدة مارجريت خطابًا إلى اللجنة المسئولة تطلب منها ضم الشاب الفنان هيوارد كارتر إلى أفراد البعثه واستغلال مهاراته فى الرسم. بالفعل وافقت اللجنة ووضعت راتبًا مقداره خمسون جنيهًا إسترلينيًا فى العام لهيوارد كارتر، أى حوالى أربعة جنيهات فى الشهر وذلك فى عام ١٨٩٠ وكان عمره حينذاك ١٧ سنة.
قضى هيوارد كارتر بضعة أيام فى القاهرة قبل النزوح إلى المنيا لبدء العمل فى المشروع. وخلال إقامته فى القاهرة تعرف على عالم الآثار الإنجليزى الشهير فلندرز بترى وكذلك زار متحف الآثار والذى كان فى قصر إسماعيل باشا بالجيزة، حيث كانت المقتنيات قد نقلت إليه مؤقتًا بعدما غرق متحف بولاق بمياه الفيضان، ولم يكن مشروع إنشاء متحف جديد للآثار المصرية قد بدأ بعد. سافر كارتر ونيوبرى وأعضاء البعثة الأثرية إلى المنيا لبدء العمل فى تسجيل المناظر والنقوش المصورة على جدران المقابر ببنى حسن ودير البرشا وكانت إقامة البعثة فى داخل المقابر التى يعملون بها. بعد إنتهاء أعمال التسجيل والرسم بمقابر بنى حسن، انتقل كل من نيوبرى وهيوارد كارتر سيرًا على الأقدام من بنى حسن إلى البرشا عبر الجبال والتلال ليتما مهمتهما هناك، إلا أن خلافًا وقع بين أفراد الفريق أدى إلى استقالة نيوبرى من البعثة، وبالتالى فقد كارتر السند واضطر إلى الإنتقال والعمل مع بترى فى حفائره بتل العمارنة عاصمة إخناتون بالمنيا. فهل كان هيوارد كارتر يعلم أنه سيكون له لقاء فريد بعد سنوات طويلة مع إبن هذا الملك؟ بالطبع لا.
خلال فترة عمله القصيرة مع بترى، تعلم كارتر مهارات الحفر والترميم بجانب التسجيل الأثرى وانتقل للعمل مع العديد من البعثات وطالت إقامته بمصر فتعلم العربية وصار خبيرًا فى التعامل مع العمال المصريين واكتسب خلال ست سنوات من العمل مع إدوارد نافيل فا الدير البحرى الكثير من المهارات حتى تحول من مجرد رسام أثرى هاوٍ إلى أثرى محترف بدأ اسمه يتردد فى الأوساط الأثرية فى مصر. وبعد إنشاء المتحف المصرى بالقاهرة والذى أصبح أيضًا مقرًا لمصلحة الآثار، تم استحداث وظيفتين هما كبير مفتشى الشمال وكبير مفتشى الجنوب. والمهمة التى من أجلها تم استحداث وظيفة كبير المفتشين هى تعمير وإثراء المتحف الجديد بالآثار الفرعونية وكانت سلطة كبير مفتشى الشمال تمتد من الأسكندرية والدلتا حتى قوص جنوبًا ومقره بسقارة، بينما تمتد سلطة كبير مفتشى الجنوب من قوص وحتى السودان جنوبًا ومركزه فى الأقصر. قام نافيل وعلماء آثار أخرون بتزكية اسم هيوارد كارتر لتولى أحد المنصبين فكان أن تم تعيينه فى وظيفة كبير مفتشى الجنوب بينما تم تعيين الأثرى جيمس إدوارد كويبل خريج أكسفورد ككبير مفتشى الشمال وأصبح كلٌ منهما يتقاضى ثروة تقدر بـ٦٠٠ جنيه مصرى فى العام، بواقع ٥٠ جنبهًا شهريًا وهى ثروة كبيرة بمقاييس ذلك العصر، وللتذكير كان الجنيه المصرى أعلى قيمة قليلًا من الجنيه الإسترلينى الذى كان يباع بـ٩٧ قرشًا.
نجح هيوارد كارتر الذى لم يتخرج من أى مدرسة أو جامعة فى أن يتساوى بعالم أثرى مثقف ومتعلم وخريج أكسفورد، وكان ذلك مجرد محطة فى حياة كارتر الذى استلم عمله فى الأقصر وبدأ يقوم بأعمال تنظيفات وترميمات للمواقع الأثرية وإعدادها للزيارة وكان يستغل علاقاته وصداقاته للحصول على تبرعات الأثرياء من الزائرين لاستغلالها فى عمله للحفاظ على الآثار وخاصةً ضد السرقات، حيث قام باستبدال أبواب المقابر الملكية التى كانت من الخشب بأبواب أخرى من الحديد. ولم يمنع ذلك حدوث سرقات شنيعة فى عهده ومنها سرقة مقبرة الملك أمنحتب الثانى والاعتداء على موميائه ومومياء أخرى كانت فى قارب تم سرقته، وعلى الرغم من تيقن كارتر أن وراء السرقة عائلة تدعى عائلة عبد الرسول، وعلى الرغم من القبض على ثلاثة أخوة من العائلة إلا أن القارب لم يظهر إلى الآن.
فى ١٩٠٤ تم نقل كارتر لوظيفة كبير مفتشى الشمال ومقره بمنطقة سقارة الأثرية. وكان من المفترض أن يكون هذا النقل بمثابة المكافأة لهيوارد كارتر، إلا أنه للأسف كان نقطة فارقة فى حياته فما هى سوى أشهر قليلة وتحديدًا فى يوم ٨ يناير من عام ١٩٠٥ حيث جاء وفد مكون من ١٥ فرنسيًا من موظفى شركة الكهرباء بزيارة إلى سقارة، وللأسف وصلوا إلى المنطقة وهم فى حالة سكر شديد، وأساءوا الأدب مع كل من قابلهم حتى وصل بهم الأمر بالإعتداء على الموظف المصرى محمد أفندى المسئول عن المنطقة وكذلك الغفير المعين على السيرابيوم! وبعد أن استغاث غفر المنطقة بهيوارد كارتر حاول الأخير احتواء الموقف دون نجاح! فقد تمادى السكارى فى التعدى على كل من يواجههم حتى أنهم حطموا أثاث مكتب مصلحة الآثار، فما كان من كارتر إلا أنه أمر الغفر بمواجهتهم وطردهم من المنطقة. ويبدو أن الغفر كانوا يتشوقون لصدور مثل هذا الأمر من كارتر، فراحوا يضربون الفرنسيين السكارى بالعصى (النبابيت) والنعال حتى أشبعوهم ضربًا وأصابوا منهم عددًا كبيرًا، مما جعلهم يفرون بحياتهم من سقارة. ويكتب مدير شركة الكهرباء الفرنسى شكوى ضد كارتر والغفر المصرى مدعيًا أنهم اعتدوا على النساء والأطفال التى كانت مع المجموعة الفرنسية.
على الرغم من الأدلة التى كانت تقف مع كارتر ورجاله فى قضيتهم ضد الفرنسيين ومنها شهادة الحمارين الذين قاموا بنقل الفرنسيين السكارى من ميت رهينة إلى سقارة، إلا أنه تقرر نقل كارتر إلى طنطا التى لم تطل إقامته بها كثيرًا فقدم استقالته من منصبة فى ٤ نوفمبر ١٩٠٥. والغريب أن تاريخ ٤ نوفمبر الذى ارتبط بيوم فقده لوظيفته سيصبح بعد أعوام هو ذاته تاريخ اليوم الموعود فى حياة هيوارد كارتر.. والبقية فى الأسبوع القادم بإذن الله.
التعريف بالكاتب:
د. زاهى حواس.. عالم الآثار والوزير السابق للآثار، مشهور بالكثير من الإكتشافات الحديثة. يعرفه العالم كله حيث يلقى المحاضرات فى دول عديدة كما يكتب مقالات أسبوعية فى العديد من الصحف والمجلات. له الكثير من المؤلفات التى تتناول علم المصريات.. يأخذنا، فى رحلة عبر الزمن، يحكى لنا فيها قصة اكتشاف مقبرة الفرعون الذهبى فى أربع مقالات، نبدأها بالمقال الأول فى هذا العدد.