منذ نوفمبر 2020، فقدت أرمينيا سيطرتها على إقليم ناجورنو كاراباخ، ولا يزال ربع الإقليم فقط تحت السيطرة الأرمينية باعتباره محمية روسية
فى الوقت الذى تتركز فيه الأضواء على أوكرانيا، نجد أن برزخ القوقاز يشهد اهتمامًا بفضل الحرب الأخيرة فى منطقة ناجورنو كاراباخ وأصبحت أرمينيا أكثر عرضة للخطر من أى وقت مضى.
من جانبها، حققت روسيا الفوز فى أول جولة من خلال نشر قواتها لكنها اضطرت للتعامل مع تركيا، التى تحاول تكرار سياسة الأستانا فى جنوب القوقاز، بمعنى آخر نرى التنسيقات الروسية التركية التى أثبتت وجودها فى سوريا.
قد تكون هذه الصورة غير مكتملة إذا أخذنا فى الاعتبار أن الخاسرين الكبار فى هذه الصفقة الإقليمية الجديدة هما الرئيسان المشاركان فى مجموعة مينسك التابعة لمنظمة الأمن والتعاون فى أوروبا، والتى لا توجد إلا على الورق وفى الواقع، رغم أن الأمريكيين والفرنسيين، غير راضين عن استبعادهم من التنسيق الروسى التركى إلا أنهم رضخوا لهذا الاستبعاد بسبب عدم التوازن بين الأرمن والأذربيجانيين.
وشهدت حرب كاراباخ الثانية تحولًا كبيرًا سواء على المستوى الخارجى أو المحلى والعرقى الأرمنى الأذربيجانى، لأن كاراباخ الصغيرة قد شهدت العديد من الصراعات:
- صراع أرمنى - تركى (لم يتم تعزيز المحور التركى الأذربيجانى بهذه الدرجة من قبل)
- صراع روسى غربى
- صراع إيرانى إسرائيلى
منذ نوفمبر ٢٠٢٠، فقدت أرمينيا سيطرتها على إقليم ناجورنو كاراباخ، ولا يزال ربع الإقليم فقط تحت السيطرة الأرمينية باعتباره محمية روسية على الأقل طالما أن قوات حفظ السلام الروسية تنفذ تفويضها لمدة ٥ سنوات قابلة للتجديد من قبل نظام علييف ذلك النظام الذى ينوى إضفاء سمة سياسية لانتصاره العسكرى عام ٢٠٢٠.
وهذا ما يفسر سياسة المضايقة التى تمارسها ناجورنو كاراباخ الأرمينية منذ وقف إطلاق النار، وخاصةً الهجوم واسع النطاق الأخير الذى شن على الأراضى الخاضعة لسيادة جمهورية أرمينيا فى ١٣ سبتمبر، خاصةً لأن باكو تأمل بقوة فى توسيع نطاقها وتحقيق أهدافها الثلاثة:
- التنازل عن أى حق فى التفتيش على مصير الأرمن فى أعالى كاراباخ خاصة أنهم مهددون بالتطهير العرقى فى إطار عدم تجديد التفويض للتدخل الروسى.
- الحصول على ممر خارج الحدود الإقليمية «لكافة الأتراك» فى مقاطعة سيونيك / زانغيزور الاستراتيجية لربطها بالإقليم الأذربيجانى ناخيتشيفان ثم إلى تركيا.
- إبرام اتفاقية سلام مع أرمينيا على خلفية اتفاقيات ألما آتا المبرمة عام ١٩٩١ ولكن على حساب تنازلات ليونين ليريفان.
ثلاث صيغ وثلاث وجهات نظر مختلفة
نحن أمام ثلاث صيغ وثلاث وجهات نظر مختلفة للمفاوضات، لكن هل تصلح لأن تكون ثلاثة حلول؟
مع احتضار مجموعة مينسك، ينطوى مصير ناجورنو كاراباخ على ثلاث منصات دبلوماسية مختلفة، لكنها لا تبدو سهلة.
بادئ ذى بدء، فإن هناك روسيا، الحكم الرئيسى ولكن ليس الوحيد إذ أن الاتحاد الأوروبى انضم إلى الجانب الذى نظم أول قمة بين الزعيمين الأرمنى والأذربيجانى فى ديسمبر ٢٠٢١، وأخيرًا الولايات المتحدة التى تنوى بعد هزيمة الجمهوريين إضعاف النفوذ الروسى فى القوقاز.
اعتمد النهج الأوروبى فى البداية على الرغبة فى التوفيق بين نقطتين لا يمكن التوفيق بينهما (وحدة أراضى أذربيجان وتقرير مصير شعب أرتساخ) وفى مواجهة هذا التحدى الناتج عن موقف باكو؛ فقد اكتفى الاتحاد الأوروبى بإرسال بعثة مراقبة إلى حدود أرمينيا وطالبها بـ«خفض سقف مطالبها»، وذلك دون منح ضمانات أمنية للسكان المعنيين. ولكن إلغاء محادثات السلام التى كان مقررًا عقدها فى بروكسل فى ٧ ديسمبر ورفض إلهام علييف لأى مشاركة من جانب فرنسا فى العملية، أعاد موسكو إلى قلب المناقشات. والحقيقة هى أن دعوة البرلمان الفرنسى فى نوفمبر لمعاقبة السياسة العدوانية لأذربيجان، قوضت الجهود الدبلوماسية للرئيس ماكرون الذى اتصل بنظيره الأرمنى نيكول باشينيان؛ وطالبه بإعادة النظر إلى فرنسا كنقطة دعم.
بدأ الأمريكيون من جانبهم عملية المفاوضات فى أعقاب الهجوم الأذربيجانى فى سبتمبر ٢٠٢٢. وعقدت عدة اجتماعات بين وزيرى الخارجية الأرمنى والأذربيجانى برعاية واشنطن. وأثارت الرحلة التاريخية لنانسى بيلوسى إلى يريفان آمالًا كبيرة فى أرمينيا، وسرعان ما خاب أملها بسبب عدم وجود أى اقتراح ملموس بشأن الدفاع عن هذا البلد الذى يعتبره الجانب التركى بمثابة تناقض.
من جانبها، فإن روسيا، التى أضعفها إطالة أمد الصراع الأوكرانى، لا تقدم أى تسوية سوى إطالة أمد الوضع الراهن، وهو أهون الشر لأرمن ناجورنو كاراباخ الذين ربطوا مصيرهم بمصير الأخ الأكبر الروسى.
فى سبتمبر ٢٠٢٢، اقترحت روسيا خطة سلام فى يريفان وباكو وأهم نقاطها إلتزام الأطراف بتأجيل مسألة وضع ناجورنو كاراباخ - أرتساخ إلى أجل غير مسمى، وقبلت أرمينيا هذه المقترحات، ولم يكن مفاجئًا رفض أذربيجان لتلك المقترحات. واعتبر علييف أن القضية تمت تسويتها منذ انتهاء الحرب التى استمرت ٤٤ يومًا ولن يكون هناك وضع لإقليم ناجورنو كاراباخ، مما يعنى تطهيرًا عرقيًا للأرمن الأصليين. وذلك لأنه لا يمكن القول أن نشر قوات التدخل الروسية التى تنتهى فى عام ٢٠٢٥ سيتم بشكل تلقائى حيث أن هذا التواجد العسكرى يعتبره الأذربيجانيون قوة احتلال.
إذا حبست ستيباناكيرت (عاصمة أرتساخ) أنفاسها، فإن أرمينيا استاءت بشدة من عدم وجود تضامن ملموس من روسيا وشركائها فى منظمة معاهدة الأمن الجماعى خلال العدوان العسكرى الأذربيجانى الأخير على أراضيها المعترف بها دوليًا.
ومن هنا، رفض رئيس الوزراء نيكول باشينيان التوقيع على الإعلان المشترك لقمة يريفان لمنظمة معاهدة الأمن الجماعى، مما أدى إلى تأجيل قرارات دعم أرمينيا. وبعد أن تم نقل الرئاسة الدورية لمنظمة معاهدة الأمن الجماعى إلى بيلاروسيا، وهى صديقة كبيرة للدولة الأذربيجانية، فإن كل شيىء يشير إلى أن أرمينيا لن تحظى بدعم شركائها فى أوراسيا.
بالنسبة لموسكو، فإن تعليق الوضع يخلق ذريعة لإبقاء قواتها فى أرتساخ والضغط على باكو، إذ تريد موسكو اتفاق سلام بين جمهوريتيها السابقتين وتسعى لتسهيل فتح قنوات اتصال فى جميع الاتجاهات لكن بشرط أن تظل تحت سيطرتها. وتنوى موسكو أيضًا استعادة الرأى العام الأرمنى. ولكن فقدان الثقة بين الحلفاء فى أعقاب سلبية الروس خلال الحرب التى استمرت ٤٤ يومًا وصمتهم بشأن العمليات الأذربيجانية المتعددة ضد أرمينيا أساء إلى روسيا وصورتها بالنسبة للأرمن.
وفوق كل شيء، فإن اقتراح موسكو يفتقر إلى الصلابة؛ فهى ليست قادرة على حماية أرمن أرتساخ بنسبة ١٠٠٪، وضمان الاستقرار الإقليمى ومنع الهجمات الأذربيجانية على أرمينيا، وفى سياق العقوبات الغربية، تحتاج روسيا إلى تركيا وأذربيجان أكثر من أى وقت مضى لإدارة اقتصادها الحربى وتدرك باكو وأنقرة ذلك تمامًا وتكشفان عن فرص كبيرة للتنسيق مع موسكو.
أما عن أرمينيا فهى ضحية للجغرافيا السياسية للإمبراطوريات كما ينظر إليها فى أسوأ الأحوال على أنها ورقة مساومة بين القيصر بوتين والسلطان أردوغان. ومن أجل مواجهة ما قد يترتب على ذلك، يشارك الأرمن بنشاط فى المبادرات التى يقودها الغرب مع تحملهم ثمن المخاطرة؛ فهل يمكن أن يتجه الأرمن إلى الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها القوة الوحيدة القادرة على التأثير فى التوازنات الجديدة؟ خاصةً المناطق التى تطل على ايران. وهنا نعود إلى هذه المعضلة الرئيسية الصعبة وهى «الأمن مقابل السيادة».. تلك المعضلة التى لا تزال تلقى بثقلها على القادة الأرمن الذين ثبت عدم كفاءتهم وأصبحت فترة رئاستهم كارثية للشعب بشكل عام وللشباب بشكل خاص.
معلومات عن الكاتب
تيجران يجافيان.. باحث فى مركز المخابرات الفرنسى، ومؤلف كتاب الجغرافيا السياسية لأرمينيا، يستعرض تفاصيل أزمة جنوب القوقاز فى هذا المقال.