بعد عدة سنوات من المفاوضات المكثفة بوساطة أمريكية، أبرم لبنان وإسرائيل، فى ٢٧ أكتوبر الماضى، اتفاقًا تاريخيًا لترسيم حدودهما البحرية، ورغم مرور نحو ثلاثة أشهر على الاتفاق، فإنه يستحق أن نتناوله بالتحليل. لسنا بصدد معاهدة سلام فى حد ذاتها، ولكن التوقيع على هذه الوثيقة يهدف إلى تهدئة المنطقة الحدودية لتسهيل استغلال موارد الغاز.
لم يتم التوقيع على هذا الاتفاق مسبقًا، وبصرف النظر عن هذه الملاحظة لعام ١٩٨٣ خلال الحرب الأهلية اللبنانية، لمدة ٧٤ عامًا، لم يكن للبلدين علاقات دبلوماسية. حتى لو لم يتحدث لبنان مع إسرائيل بشكل مباشر ولم يوقعا الاتفاق على نفس الورقة، تمكن الوسيط الأمريكى عاموس هوشتاين من إيجاد حل وسط بين الطرفين. بالنسبة لرئيس الوزراء الإسرائيلى آنذاك، يائير لابيد، فإن اتفاقية ٢٧ أكتوبر هذه تشكل «اعترافًا» فعليًا بالدولة العبرية من قبل بيروت. بالنسبة للرئيس اللبنانى السابق وحليف حزب الله ميشال عون، فإن هذه المعاهدة ليس لها «بعد سياسي».
هناك شيء واحد مؤكد، للتوصل إلى اتفاق بشأن ترسيم حدود المناطق الاقتصادية الخالصة لبلدين لا يزالان فى حالة حرب رسميًا، كان على جميع الأطراف الاتفاق، بما فى ذلك الحركة الموالية لإيران. فى الواقع، أعلن الأمين العام لحزب الله إنهاء التعبئة الاستثنائية لجناحه العسكرى بعد توقيع الاتفاق، واصفا النص بأنه «انتصار كبير للبنان دولةً وشعبًا ومقاومةً» على حد زعمه.
على هذا النحو، رحب الرئيس الأمريكى أيضًا بهذه الاتفاقية بين لبنان وإسرائيل. وأشاد «بالإبرام الرسمى لاتفاقهما على حل نزاعهما الحدودى البحرى طويل الأمد». وجاء فى بيان البيت الأبيض أن «الجانبان اتخذا الخطوات النهائية لبدء تنفيذ الاتفاق وقدما الوثائق النهائية إلى الأمم المتحدة بحضور الولايات المتحدة».
اتفاق مربح للطرفين؟
على الرغم من عدم اعتراف لبنان بدولة إسرائيل، بدأ البلدان التفاوض تحت رعاية الولايات المتحدة فى عام ٢٠١١. وتم استئناف المفاوضات رسميًا فى أكتوبر ٢٠٢٠ وبالنظر إلى اكتشافات الغاز فى شرق البحر المتوسط، تغير الموقف اللبنانى عدة مرات فى الأشهر الأخيرة وطالبت بيروت بمساحة ٨٦٠ كيلومترا مربعا ثم تلتها مطالبة أخرى بمساحة ١٤٣٠ كيلومترا مربعا، واضطر الوسيط الأمريكى إلى زيادة عدد الزيارات والاجتماعات مع الوفدين الإسرائيلى واللبنانى.
هدد حزب الله مرارًا بإطلاق صواريخ على المنشآت البحرية الإسرائيلية لمنع بدء الحفر فى حقل كريش للغاز وفى يوليو الماضى، وسط انعقاد المفاوضات، أرسلت الميليشيا الموالية لإيران عدة طائرات استطلاع بدون طيار فوق الحقل المتنازع عليه. هذا الموقف العدائى للحزب الشيعى لم يعرقل المحادثات بل حصلت إسرائيل بالفعل على منطقة غاز الكريش بأكملها وبدأت استغلالها مع شركة انرجان.
وتخطط المجموعة العاملة فى لندن لزيادة إنتاجها السنوى بسرعة إلى ٦.٥ مليار متر مكعب من الغاز الطبيعى وفى النهاية إلى ٨ مليار متر ³، ويجب أن يغطى استغلال هذا الحقل الاحتياجات المحلية للسكان الإسرائيليين. وبالتالى، فإن حقول الغاز الأخرى، مثل ليفياثان، أكبر حقل غاز فى إسرائيل، وستكون قادرة على التحول إلى التصدير إلى الخارج، بما فى ذلك السوق الأوروبى، التى تضررت بشدة من أزمة الطاقة منذ بداية الأزمة الأوكرانية.
وحصل لبنان، من جانبه، على جميع حقوق التنقيب فى حقل قانا للغاز واستغلاله وهذا الحقل مكانه فى الشمال الشرقى، ويقع جزء منه فى المياه الإقليمية لإسرائيل؛ لكن «سيتم الدفع لإسرائيل» من قبل الشركة المنتفعة بحقل قانا للغاز «لحقوقها فى حقول أخرى محتملة »، وبحسب النص، قدر يائير لابيد الحصة الإسرائيلية بنحو ١٧٪ وفى حالة عدم وجود تقدير، ستشارك شركة توتال الفرنسية وشركة إيني الإيطالية وقطر للطاقة فى الحفر فى حقل قانا للغاز.
وفى خطوة ثانية، يمكنهم البدء فى الاستخراج من المنطقة. مع التداعيات الاقتصادية المحتملة فى المستقبل، سيتمكن لبنان أخيرًا من كسر الحلقة الجهنمية للأزمة، وفى الواقع، منذ أكتوبر ٢٠١٩، يواصل لبنان الغرق فى أزمة متعددة الأبعاد وما بين الهبوط السريع للعملة المحلية، وارتفاع معدلات التضخم، ومعاناة جميع قطاعات المجتمع المدنى، والنقص الكبير فى السلع الأساسية، وتعثر البنوك، فإن هذا الاتفاق المتعلق بترسيم الحدود البحرية يبعث الأمل لدى جميع اللبنانيين.
استبعاد الصراع المسلح؟
فى منطقة دمرتها الأزمة السورية والصراع اليمنى والقضية الإسرائيلية الفلسطينية الشائكة والتدخل الإيرانى والأهداف الإقليمية التركية، يبعث هذا الاتفاق الأمل للشرق الأوسط حيث قرر بلدان لا يعترفان ببعضهما البعض، وليس لديهما علاقات دبلوماسية وتجارية، تنحية خلافاتهما التاريخية جانبًا. ولا تزال الذكرى المؤلمة للحرب الأهلية اللبنانية وأهوال الصراع الذى نشب فى يوليو ٢٠٠٦ بين جيش الدفاع الإسرائيلى وحزب الله موجودة فى جميع العقول اللبنانية والإسرائيلية.
على الرغم من العداء والتوترات المنتظمة بين الحزب الشيعى الموالى لإيران والجيش الإسرائيلى فى سوريا وجنوب لبنان، فإن هذا الاتفاق يساعد على تعزيز الهدوء النسبى بعد عام ٢٠٠٦. ولما كانت الحركة الشيعية تعلم أن نزاعا جديدا فى الأراضى اللبنانية سيكون مدمرا لجميع الأطراف، فإنها تصرفت بشكل عملى بإعطاء الضوء الأخضر لترسيم الحدود البحرية؛ وقام حزب الله بتغيير موقفه حرصًا على تجنب التذمر الشعبى ضده.
وعلى الرغم من أنها ليست مسألة تطبيع بالمعنى الأصلى للكلمة، فإن هذا النموذج الجيوسياسى الجديد هو الخطوة الأولى فى عملية سلام مستقبلية بين البلدين وهذا الترسيم للحدود يعنى بالضرورة التعاون، ولو بشكل غير مباشر، بين لبنان وإسرائيل.
هذا الوضع مشابه من جهات كثيرة للوضع الأمنى بين سوريا والدولة العبرية وبعد هدنة عام ١٩٧٣ التى أنهت حرب يوم الغفران، رفض البلدان صراعًا جديدًا وشاركا فى المفاوضات.. وبمعنى أخر كانت حالة لا حرب ولا سلام هى التى يتسم بها الوضع الجيوسياسى الجديد بين العدوين. وذلك، لأسباب أمنية واقتصادية واضحة، ففى مصلحة لبنان، وكذلك حزب الله، الحفاظ على هذا الاتفاق.
معلومات عن الكاتب:
جوزيف ثابت صحفى فرنسى لبنانى متخصص فى قضايا الشرق الأوسط. يتعاون مع العديد من وسائل الإعلام الدولية وعمل لعدة سنوات فى لبنان وسوريا.. يستعرض هنا تداعيات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل وأبعادها المختلفة على المنطقة.