منذ ١٢ سبتمبر وفى ظروف صعبة ومروعة، أدى مقتل مهسا أمينى، تلك الفتاة الكردية الإيرانية لعدم التزامها بالزى الذى وضعته دكتاتورية طهران، إلى تأجيج مناخ من التمرد فى جميع أنحاء إيران (خاصة بين النساء والشباب) كما أثار موجات من الاحتجاج والإدانة فى جميع أنحاء العالم.
وكان أكبر مثال على ذلك النداء المؤثر خلال مظاهرات عدد من الجالية الإيرانية فى فرنسا بعد أيام قليلة من إعدام الشابين المتظاهرين، موشن شكارى وماجد رهنورد؛ حيث لا يمكن لأى ديمقراطى أن يتجاهل مثل هذه الأوضاع.
ولكن ربما ينبغى التعامل مع المستقبل بحذر بعد كل هذه الأحداث، ظل بعض «الخبراء» يعلنون لنا منذ عدة أسابيع الاختفاء الوشيك لنظام الملالى. لم يتردد خبير من هؤلاء أن يعلن منذ أيام قليلة أن «نظام الملالى سيختفى قبل حلول فصل الشتاء».. هذا الخبير نفسه هو الذى أعلن فى يناير ٢٠٢٢ أن «روسيا لن تغزو أوكرانيا أبدًا»، ثم بعد يوم من اندلاع الأعمال العدائية، أكد بكل خجل أن الحرب ستستمر بضعة أسابيع فقط!
دعونا ننتهى من هذه التفاصيل ونحاول الاقتراب قليلًا من الوضع الإيرانى الحالى. للأسف مظاهرات التمرد هذه ضد النظام الاستبدادى الذى تم تنصيبه فى طهران منذ سقوط الشاه لم تضف حقائق جديدة. وعلى سبيل المثال، الاضطرابات المذهلة فى عام ١٩٩٩ «الحركة الخضراء» لعام ٢٠٠٩ (مقدمة «الربيع العربي") أو التوترات الشديدة للغاية فى عامى ٢٠١٧ و٢٠١٩؛ كل هذه المظاهرات تم قمعها بشدة من قبل «حراس الثورة». غالبًا ما ننسى كل هذا فى أوروبا الغربية خلال فترات الرئاسة الإيرانية التى تتولاها شخصيات تُعتبر «معتدلة».
هذه الفترات الرئاسية لم تغير شيئًا فى الوضع، سواء مع محمد خاتمى أو مع رئيس الدولة الحالى إبراهيم رئيسى، حيث تم انتخاب هذا الأخير فى مارس ٢٠٢١، بعد منافسة شرسة مع خصمه، ويعتبر هذا الرئيس فى نظر المجتمع الدولى «معتدلا» لكن فى الواقع كل شىء نسبى!. هذا المدعى العام السابق تم ترشيحه كوزير للمخابرات من قبل المتطرف أحمدى نجاد، كما كان رئيس نظام قضائى اتهمته منظمة العفو الدولية بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
إلى جانب كل هذه الملاحظات المتعلقة بالخصوصية الداخلية للدولة الإيرانية، يبدو أن عاملين لهما عواقب دولية لا مفر منهما، وذلك «فى محاولة للتحليل الجيوسياسى فى مواجهة المتغيرات المعاصرة».. متغيرات مرتبطة بالجغرافيا والتاريخ:
١) فرضية إعادة تأسيس «الإمبراطورية الإيرانية»: نحن نتحدث اليوم، هنا وهناك، عن «عودة الإمبراطوريات"؟
بالنسبة لبعض المراقبين؛ فإن الإمبراطورية الإيرانية أو الإمبراطورية «الفارسية» قد تتم استعادتها تقريبًا:
من بحر قزوين إلى البحر المتوسط، نجح نظام الملالى الشيعى فى تطويق القوة الإقليمية الوحيدة فى الخليج، وهذه القوة الوحيدة القادرة على إحباط طموحاتها الإمبريالية، هى المملكة العربية السعودية السنية.
من طهران إلى ميناء صور، مرورًا ببغداد ودمشق (المحور الاستراتيجى الرئيسى)، يمكن لإيران أن تظهر أكثر من أى وقت مضى كقوة رئيسية فى البحر المتوسط، مع تعزيز وجودها فى الخليج.
تم تناول هذا النوع من التحليل، على سبيل المثال، فى عام ٢٠١٧، من قبل بيير فود (مجلة الدفاع القومى)، واستحضر فى تحليله مسيرة إيران البطيئة نحو إمبراطورية شبه إقليمية قائلا: «نظمت إيران فى الجمهورية الإسلامية منذ عام ١٩٧٩، ولم تنجو من ماضيها الإمبراطورى الموحد والذى تم بناؤه حول علاقات القوة والتوسع الإقليمى فقط وذلك منذ حضارة يوروفت حتى مملكة النخبة».
٢) رهن البرنامج النووى!
فى عام ٢٠٢١، استذكرنا تاريخ البرنامج النووى الإيرانى (راجع «العولمة الخطرة"): تصدرت عناوين الصحف الدولية فى عام ٢٠٠٢، عندما أعلن المنشق عن النظام، جعفر زاده الذى يمتلك الأدلة الداعمة لكلامه أن طهران كانت قد أعلنت سرًا بناء موقع لتخصيب اليورانيوم فى نطنز، بيان أكده رسميًا الرئيس محمود أحمدى نجاد حيث أعلن فيه أن إيران ستنضم سريعًا إلى القوى النووية، وبعد إيحاءات متعددة وإيماءات دبلوماسية أخرى، تم توقيع اتفاقية فى ١٤ يوليو ٢٠١٥، فى فيينا بين طهران ومجموعة P٥ + ١ (الأعضاء الدائمون فى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وألمانيا) وتتكون هذه الاتفاقية من ثلاثة أجزاء:
- تقييد البرنامج النووى الإيرانى، لمدة عشر سنوات على الأقل، ويتضح بشكل ملموس من خلال التعديلات التقنية التى أدخلت على محطة الطاقة فى أراك لمنعها من إنتاج البلوتونيوم المخصب.
- تعزيز الضوابط من خلال هيئة مفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
- رفع العقوبات الاقتصادية التى كانت مفروضة على إيران بشكل جزئى، ويعتبر هذا إجراءً لاحقًا للجزءين الأول والثانى.
على الرغم من أن تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية الصادر فى أغسطس ٢٠١٧ أعلن «أن إيران تفى بوعودها وتحترم التزاماتها بالتخلى عن الاستمرار فى بناء مفاعلها والحفاظ على اليورانيوم المخصب تحت حاجز الـ ٣٠ كجم»، ندد ترامب من جانب واحد بالاتفاق فى مايو ٢٠١٨ وفى السنوات الأخيرة، يتضح الموقف بشكل خاص من خلال اغتيال أبو القنبلة الذرية الإيرانية، فخرى زاده، فى نوفمبر ٢٠٢٠، كما ساهم جو بايدن فى استئناف المفاوضات والتقى فى يونيو ٢٠٢١ مع الرئيس الإيرانى، كل ذلك ساهم فى زيادة موجات من التفاؤل وأيضا النقد الشديد (هذا المشروع، على سبيل المثال، سرعان ما تم وصفه بأنه «اتفاق خادع» من قبل تل أبيب).
اليوم، يعتقد العديد من المتخصصين أن جمهورية إيران الإسلامية كانت ستصل إلى «العتبة النووية» وستكون قادرة على امتلاك ما يكفى من اليورانيوم المخصب فى غضون أسابيع قليلة للحصول على «قنبلتها». فرضية قاتمة لا يشك أحد فى أن لها عواقب وخيمة للغاية على الصعيدين الإقليمى والعالمى.
بالنسبة للغربيين، فإن الوضع أكثر حساسية لأنه يتعلق بالمفاوضات المستمرة وتحقيق اتفاق يرضى الأطراف المعنية ويدين الانتهاكات التى يرتكبها نظام الملالى ضد شعبه.
أما قيام إمبراطورية فارسية تعمل بالطاقة النووية، فهو احتمال مزعج للغاية خاصةً أنه إذا حلت روسيا مشاكلها الداخلية، هنا يمكننا أن نتخيل فى المنطقة قوى ثلاثية متضاربة محتملة من البحر المتوسط إلى الخليج عبر البحر الأسود: إمبراطورية إيرانية (شيعية) وإمبراطورية روسية (أرثوذكسية) وعثمانية (إمبراطورية سنية، حلم رجب أردوغان)، لكن هذه قصة أخرى كاملة.
معلومات عن الكاتب
جاك سوبيلسا هو أحد أشهر علماء الجيوسياسة الفرنسيين، وهو الرئيس السابق لجامعة السوربون ودبلوماسى سابق وكان الرئيس الأول والوحيد لقسم الجغرافيا السياسية فى فرنسا بجامعة السوربون، ونشر فى نهاية عام 2021، مع ألكسندر ديل فال، عملًا إبداعيًا رائعًا عنوانه «العولمة الخطرة».. يتناول هنا فرضية توسع نظام الملالى إلى حد إنشاء «إمبراطورية فارسية تمتلك الطاقة الذرية».