كتب 86 عمل إبداعي متنوع ما بين الرواية والقصة والدراسات يعتبر أديب وروائي شامل ومتكامل حيث كتب كافة أنواع السرد من مقال ودراسات ومجموعات قصصية وروايات، وهو من ضمن 5 أدباء في تاريخ مصر جمعوا بين جائزتي الدولة التشجيعية والتقديرية أنه الروائي السكندري محمد جبريل، وفي منزله بحي مصر الجديدة كان معه هذا الحوار حول الأدب والثقافة كالآتي:
* متى تواتيك لحظة الإبداع؟
- لحظة الإبداع ليست هي لحظة الجلوس للكتابة، للإبداع فترة اختمار قد تمتد أيامًا، أو شهورًا، لكن الإبداع ليس وليد اللحظة، ولا وليد المصادفة.
مكان الكتابة نسبي. ثمة مكان يمثل - لسبب ما - حافزًا على الكتابة، الهدوء [ ربما أدرت الراديو أو التليفزيون، لكنى أهمل الانتباه ]، الضوء، النظافة. ثمة - في المقابل - مكان للجلوس، للراحة أو مجالسة الأصدقاء، لا تشغلني فكرة الكتابة.
لاحظت أن مكان القراءة عندي تحدد - منذ سنوات - في الأوتوبيس، أفيد من طول المسافة بين بيتي في مصر الجديدة ووسط البلد. إذا أردت أن أستكمل قراءة كتاب ما، فإني أسأل زوجتي: هل لديك مشوار في البلد؟. ليس المشوار - الذى لا أعرف طبيعته - ما يهمني، إنما هي الرغبة في وصل ما سبق، في استكمال ما كنت بدأت قراءته.
أما مكان الكتابة فهو - في الأغلب - طاولة المائدة في البيت، أفضل أن أجلس إلى الطاولة للكتابة، تتهيأ أمامه نفسيتي ومزاجي وقدراتي، ربما لو أني جلست إلى مكان آخر سيزول ذلك التهيؤ.
لا أذكر متى، ولا كيف، تحددت هذه الأماكن، لكن ذلك صار كذلك بالفعل.
لعلى أنفق الكثير من الوقت في ما يمكن تسميته الإعداد، أو التهيؤ للكتابة، أنشغل بأشياء لا قيمة لها وتافهة، تجربة القلم، مسح ما على الطاولة أو المكتب، من غبار، لملمة الأشياء المبعثرة. وبمعنى آخر، فإني أرش الماء أمام الدكان، وأنظفه جيدًا قبل أن أبدأ في مزاولة نشاطي.
أصعب اللحظات عندما أضع الأوراق البيضاء أمامي، أحاول الكتابة فلا تواتيني الفكرة، بل ولا تواتيني القدرة على الكتابة، تختلط اللحظات والمعاني والكلمات، فهي لا تتصل، ولا تتسق. لولا شعور يداخلني - على نحو ما - بأن العمل الذى أعد لكتابته أفضل من الأعمال التي سبقته.
ربما تواتيني فكرة ما، أحاول البدء فى كتابتها فلا أوفق، أعاود المحاولة أكثر من مرة فيواجهني الفشل، أزمع أن أنسى الفكرة تمامًا، لكنها - في لحظة ما - تلح في أن تكتب نفسها، فلا أترك القلم والورق حتى أتم مسودتها الأولى! [ أصارحك بأني أفكر - منذ تعرفت إلى الكتابة - في اللحظة التي لا يجد فيها القلم ما يكتبه، وتظل الأوراق بيضاء. أخشى اللحظة التي يخبو فيها الإبداع، تغيب الرؤى والتصورات والأحداث والشخصيات واللغة والأسلوب والتقنية، وكل ما يشكل عملًا إبداعيًا ]. تأتى لحظة الإبداع - في لحظة لا أتوقعها - كالانبثاق المفاجئ، كالومضة، لعلى أكون منشغلًا بفكرة أو أخرى، أو عمل آخر، تمامًا، ربما تعاودني الفكرة، تقتحمني وأنا أجالس أصدقاء، أو أخوض حوارًا في قضية ما، أسلم نفسى للشرود، للحياة مع الفكرة التي تلح على ذهني، وإن هززت رأسي في تظاهر بأني أنصت.
لاحظت أن معظم الأفكار تواتيني وأنا فى اللحظات بين الصحو والنوم، بل إن قصتي "هل " - كما رويت لك - تخلقت في ذهني قبل أن أصحو من نوم القيلولة. لم أفعل - حين جلست إلى مكتبي - إلا نقل ما كان قد كتب نفسه في الذاكرة. ربما تنبثق الفكرة في أثناء القراءة، قراءات منوعة لا صلة لها بالفكرة التي تنبثق فجأة. أتناساها، أو أرجئ التفكير فيها، تعاودني، أو أنساها، تفرض إلحاحها في اللحظة نفسها، فأنحي كل ما بيدي، وابدأ في الكتابة. أواصل الكتابة دون أن ألحظ انقضاء الوقت، أكتب بسرعة شديدة، لا أعني بتحسين الخط، وإنما تشغلني الكتابة ولو بخط أعجز - شخصيًا - عن قراءته. ما أريد كتابته أسرع دائمًا من عملية التسجيل، من جري القلم على الورق. وبالطبع، فإن الفكرة ربما تكون قد شغلتني من قبل كثيرًا، أتأملها، أقلبها، أحاول استكناه الأحداث والنفسيات والدلالات، ثم أنصرف عن ذلك كله إلى فكرة أخرى، أو عمل آخر، لكن الفكرة الأولى ما تلبث أن تعود. أنشغل بها ثانية، ثم أنساها، وهكذا. وعمومًا، فإني أفضل أن أكتب بدلًا من أن أتكلم. في بالى قول همنجواي: "عندما أتكلم فلن يعدو الأمر مجرد كلام، أما عندما أكتب فإني أعني ما كتبته دومًا".
أحاول - مع ذلك - أن أستدعي ما يسمى بالإلهام، ولا أجلس في انتظاره. أشفق على ذلك الفنان الذى جلس - ساكنًا - أمام حامل اللوحة، وفي يده الفرشاة ساكنة كذلك، مترقبًا أن يهبط عليه الإلهام. معظم شخصياتي مبعثها الخيال، لكنها تتحول - في أثناء تخلق العمل - إلى شخصيات حقيقية، أتوهم أنها حقيقية!. لا أحب التوقف بين الجمل، الجملة التي تستعصي على الكتابة، يقفز القلم فوقها، وأتركها لمحاولة استعادة المواقف، وما يجب أن أضعه في موضع النقاط، أو المساحة البيضاء، بين جملة وأخرى [ أنا ممن يفضلون أن يبدي أصدقائي - ليسوا جميعاً أدباء بالضرورة - آراءهم في مسودات أعمالي قبل أن أدفع بها للنشر، أفيد من الملاحظات التي تناقش المعلومة، وتكشف ما قد يتسم بها من أخطاء، مبعثها الحرص أن تكتب القصة، الرواية، نفسها. لا ملفات مسبقة، ولا بيانات شخصية، أو ملامح أو أحداث، تشكل قوامًا للعمل الإبداعي ]
* ما تأثير المرأة فى أعمالك؟
- أوافق على الرأى بأن رحيل الأم فى سن باكرة ، كان سبباً فى غياب المرأة عن معظم إبداعاتي. كانت المرأة غائبة بالفعل، أو أنها عانت شحوباً فى أعمالى الأولى.. لكن الملامح تغيرت تماماً فى الأعمال التالية. ثمة نادية حمدى فى " النظر إلى أسفل " التى تمثل شرياناً رئيساً فى جسد الرواية، والزوجة فى " اعترافات سيد القرية " تهبنا مواقف إيجابية مناقضة لما كان يمثله الرجل ، وأنسية فى " رباعية بحرى " تحملت ما لا يحتمله بشر فى محاولة تخطى ظروفها القاسية . وثمة ياسمين فى " الشاطئ الآخر "، وعائشة عبد الرحمن القفاص فى " قلعة الجبل "، وزهرة الصباح فى الرواية المسماة بالاسم نفسه، وبهية الحلوانى فى " بوح الأسرار "، ورئيفة فى " حكايات الفصول الأربعة "، و" زوينة " فى الرواية المسماة باسمها، وشانتال فى"رجال الظل "، ولطيفة فى " زمان الوصل "، ونورا فى " صيد العصارى "، وغيرها من الشخصيات التى تقدم المرأة فى أبعاد مختلفة. قد تواجه ما يدفعها إلى اتخاذ مواقف سلبية، لكنها تواصل السعى فى اتجاه رفض الظروف المعاكسة، والإصرار على تخطيها.
كان لغياب أمى عن حياتى فى سن باكرة تأثيره بالنسبة لى على المستويين الشخصي والإبداعي . وقد اتسعت مساحة ذلك التأثير - فيما بعد - فى مجموع أعمالى، بحيث تبين المرأة - كما أتصور - عن ملامح يصعب إهمالها.
* رباعية بحرى تناولت فترة أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات.. ماذا بقى من بحرى ذلك الزمان؟
- البيوت التى كان يسكنها شخصيات " رباعية بحرى " تلاشت تماماً، أزيلت، أو تهدمت، حلت - بدلاً منها - بنايات جديدة، حديثة. إذا أردت أن أكتب عن أحداث من ذلك الزمان، فإنى ألجأ إلى الخيال، يستعيد ما كان فى عملي الآنى، العمل الذى أكتبه حالاً.
* الملاحظ أنك كتبت روايتك الأولى " الأسوار " بعد سنوات من التفرغ للقراءة.. كيف تنظر إليها؟
- بصرف النظر عن قيمة " الأسوار " فى اجتهادات النقاد. من يجد فيها فناً على القيمة، ومن يعيب رداءتها، فإنها تحتل موقعاً مهماً فى تاريخى الشخصى للرواية، ذلك لأنها كانت أول رواية أكتبها بعد محاولات، من الطفولة إلى نهاية الصبا. ألفتها بعد قراءات فى فن الرواية، مضافاً إليها قراءات فى شتى الإنسانيات، سعياً - فيما بعد - لتقديم فن يعبر عن أخص ما يمتلكه الفنان من موهبة ومعرفة وخبرات. أفادت الرواية من تفاعل الفنون بما يدفعنى إلى القول بأنها أول عمل إبداعى عربى يفيد من تفاعل الأنواع بصورة حقيقية. ثمة الحدوتة، والهارمونى الموسيقى، والتقطيع، والفلاش باك، والقص واللصق، والتبقيع كما فى الفن التشكيلى، والحوار الدرامي، إلخ. أفدت - فى أعمالى التالية - من تجربتى فى الأسوار، لكن قيمة الرواية فى ريادتها ـ بالنسبة لكاتبها فى الأقل ـ وفى أنها شملت جوانب كثيرة من الفنون الأخرى.
* ما ملامح مشروعك الإبداعي؟
- تبدو أعمالى - أحياناً - تجربة مكررة، والواقع أنى أحرص على التنويع فى التجربة الواحدة، وإن جاء العنوان الرئيس تعبيراً عن بعد فى فلسفة حياة يشغلها التكامل.
كان شاغلى - منذ البداية - أن ألتزم بقضية واحدة كبيرة، تندرج تحتها قضايا أخرى، تتصل بها، وتشكل فى مجموعها - القضية الرئيسة والقضايا الفرعية - ما أسميه فلسفة الحياة.
كانت المقاومة هى قضيتي الكبرى التى أملتها الظروف التي عشتها شخصياً، وعاشها الوطن الذى أنتى إليه، سواء المحيط المصرى المحلى، أو المحيط العربى الواسع.
* كيف تختار عنوان الرواية أو القصة القصيرة، وهل لابد من دلالة؟
- ربما يسبق العنوان كتابتي للرواية أو القصة القصيرة، وربما أنهيت الكتابة، وطالت مراجعتى لها دون أن يشغلنى العنوان الذى أختاره لها. يأتى العنوان فى وقته لأختاره وأنا أقرأ، أو أشاهد، أو أستمع، أو أشرد بالتأمل. يومض الاسم فألتقطه، وأضعه عنواناً. اسم رباعية بحرى سبق كتابتى للرواية. أما أسماء الأولياء الأربعة التى اخترتها للأجزاء الأربعة، فقد فرضها تقسيم الرواية إلى أجزاء. ولأن أحداث كل جزء دارت فى رحاب أحد هؤلاء الأولياء، فقد فضلت أن أطلق اسمه على ذلك الجزء. أما رواية " قاضى البهار ينزل البحر" فقد أهملتها حتى واتتنى النهاية المناسبة، ونزل قاضى البحر، فراراً من المطاردة، وكان ما حدث هو اسم الرواية. اسم " زمان الوصل " التقطته مصادفة للقصيدة الأندلسية الشهيرة عن زمان الوصل، وجدت تسمية " زمان الوصل " مناسبة، فاخترتها. والأمثلة كثيرة. أحرص ألا يفصح العنوان عن مضمون العمل بصورة مباشرة، فإذا كان الفن إضمار، فإن التسمية التي تومئ إلى دلالات العمل - دون فضح - هى ما أحرص على اختياره.
* كيف تختار أسماء شخصياتك؟
- تنبهت إلى أنني لم أحاول أن أختار أسماء تعبر عن الشخصية، مثل أمينة فى بين القصرين، ورضوان الحسينى فى زقاق المدق، ونور فى اللص والكلاب، وبسيمة عمران وصابر والسيد الرحيمي فى الطريق.. اختيارى للشخصيات لا تشغله الدلالات، بل إنه - فى معظم الأحيان - كيفما اتفق. بالطبع، فإن الشخصية النابعة من البيئة الشعبية لها اسم يختلف - على نحو ما - عن الشخصية ذات النشأة الأرستقراطية، وأسماء أبناء كل مهنة تتشابه بحكم النشأة الواحدة، وظروف المهنة، وأسماء المتصوفة وعلماء الدين، ولهم فى الأعمال الأدبية نصيب وافر، استمراراً لتسميات القدامى من علماء الدين والأولياء ومشايخ الطرق. ثمة من يحرصون أن تكون الأسماء تعبيراً صارخاً - لا يحضرنى تعبير آخر - عن البيئة، فأسماء نساء البيئة الريفية تقتصر على خضرة وست الدار وست أبوها وبخاطرها، فى حين أن أجمل الأسماء يختارها الأهل فى مجتمع القرية، وكان اختيار نجيب محفوظ لشخصيات ذات أسماء غريبة مثل كرشة، وجعدة، وزيطة وغيرهم حافزاً لأن يختاروا أسماء مشابهة فى التعبير عن البيئة الشعبية، والتعبير عن البيئة - بالطبع - ليس فى مجرد الأسماء، لكنه يتبدى فى ملامح المكان وقسماته، والفترة التي يعيشها، ومن السذاجة تصور أن من يمتلك اسماً غريباً هو بالضرورة من بيئة شعبية، ويميل البعض إلى استعارة الأسماء التركية والكردية لأسماء أبطالهم باعتبار أنهم من أبناء الطبقة العليا، وهذا اجتهاد غير صحيح، فغالبية أبناء تلك الطبقة يشغلهم أن تعبر أسماؤهم عن انتمائهم إلى البيئة المصرية، ولا أدرى لماذا اسم جرجس - وحده - هو التعبير عن الشخصية المسيحية فى معظم الأعمال التى يكون أحد شخصياتها من القبط؟ الاسم لقديس، لكن الأسماء متاحة، لقديسين، وامتداداً لأسماء مصرية قديمة، تعود إلى عصور الفراعنة.
بل إنه من الصعب أن نفرق ـ فى زمننا الحالى ـ بين أسماء المصريين، فلا يجد المرء إلا أن يخاطب محدثه باعتباره مصرياً. أتذكر قول سيمون دى بوفوار إنها تلجأ فى اختيار أسماء شخصياتها إلى دليل التليفون. أضيفه إلى وسيلة اختيارى للأسماء، وهى صفحة الوفيات، أو يجتذبنى اسم أراه صالحاً للتعبير عن شخصية ما. ورأيى أن تفسيرات النقاد لأسماء الشخصيات والأماكن، ربما يبلغ حد شطط الخيال: مطار السيب فى مسقط هو بوابة العاصمة العمانية مسقط، فهو مكان واقعى تماماً.. لكن ناقداً أحترمه فسر الاسم بمعان يصعب أن تنطبق على قصتى القصيرة " العودة" التى تناولت التسمية. مع ذلك فإن اختيارات الأسماء عندى لا تجاوز البيئة، ففى الروايات التى تعنى بالحياة فى بحرى تطالعنا أسماء: ياقوت، عباس، جابر، أنصاف، وغيرها من الأسماء التى تنتسب إلى بيئة الإسكندرية. أما الأعمال التى تجاوز المدينة، فأنا أستمد أسماؤها من قراءات الصحف، ومنها صفحة الوفيات.
* اللافت ندرة كتاباتك فترة الستينيات، قياساّ للفترات التالية؟
- غيابى عن فترة الستينيات أنسبه إلى نفسى. قليل ما نشرته فى صحف تلك الفترة، ولم أشارك فى الأنشطة الثقافية بصورة فعالة، ذلك لأنى ألزمت نفسى - قبل أن أفرغ للإبداع - أن أقرأ الإبداع، وما يتصل به، وأمضيت حوالى تسع سنوات أنهيتها بكتابى " مصر فى قصص كتابها المعاصرين"، الذي حصلت به على جائزة الدولة، وأصدرت أولى رواياتى " الأسوار ". ثم سافرت إلى الخليج فى رحلة عمل، استغرقت حوالى تسع سنوات أخرى، لم يكن لانشغالى فيها بالعمل الصحفى تأثير على الكتابة الأدبية، انتزعت من الوقت ما أنفقته فى القراءة والكتابة الإبداعية، وهو ما تواصل عقب عودتى إلى القاهرة، أعانى إدمان القراءة، وأحاول التعبير، وأواجه اتهاماً بغزارة الإنتاج، دون أن يتطرق أصحاب الاتهام إلى قيمة الإبداع، وهل يستحق التسمية، بل ودون أن يطرحوا المقارنة - من حيث الكم - بين ما صدر لى، وما صدر لزملاء أعزاء، تكاثرت كتاباتهم مثل خلايا نحل. لا أعتبر كثرة الكتابات مقياساً لمكانة المبدع، ولا أعتبر قلة الكتابات مقاساً مقابلاً، المهم أن يساوى الإبداع قيمة الوقت الذى أنفق فى كتابته، والورق الذي سطر عليه. إن لى مشروعى الأدبى الذى ينهض على فكرة المقاومة، وما يتصل بها من قضايا مهمة، تشكل فى مجموعها ما أعتبره فلسفة حياة، وتحاول الاقتراب من تكامل مشروعي الأدبى.
* في ظل الأوضاع العالمية الراهنة.. ما تصورك لمستقبل الأدب ؟
السؤال كبير، ويحتاج إلى إجابة مطولة ، لهذا فإنى أكتفى بالتأكيد على مستقبل الأدب من حيث هو كلمة يكتبها المبدع ليقرأها المتلقى .
يبدو المستقبل ـ فى ضوء تلك النظرة المحددة ـ غاية فى القتامة ، فالكتاب ترتفع أسعاره بمناسبة ، وبلا مناسبة ، بحيث لم يعد يقوى على شرائه إلا القلة التى غابت عن غالبيتها عادة القراءة . أحزن ، وأنظر إلى المستقبل بقلق ، وأنا ألحظ كومات الكتب المرصوصة فى المكتبات ، وعند باعة الصحف ، دون أن تجد من يشتريها ، اللهم إلا الكتب الدراسية . وللأسف فإن الحديث عن مستقبل الأدب فى عصر العلم يبدو ثانوياً بالقياس إلى المشكلة الأهم ، وهى الموت الحقيقى الذى ينتظر الأدب فى فم غول الأسعار الشرس .. تلك النهاية الحتمية التى لن يمنع حدوثها سوى التدخل المباشر من الدولة ، لوضع حد لذلك الارتفاع المتصاعد فى سعر الكتاب ، بحيث أن كتاب الماستر الذى كان يجد فيه الأدباء فراراً من غلاء تكاليف الطباعة والورق إلخ .. قد امتد إليه ذلك الغلاء . أى مستقبل لأدب لا تجاوز معظم إبداعاته أدراج مؤلفيها ، فضلاً عن أن الكتب التى يتاح لها النشر ، لا تجد القارئ الذى يقوى على أثمانها المرتفعة ؟!
* ما ذكرياتك عن ندوتك الأدبية في " المساء"؟
- لم أكن أتصور قيمة الدور الذى حققته ندوة المساء خلال عقود متوالية، لولا أزمة مرضية أرجو أن تكون طارئة، عبر الأصدقاء الأدباء - انعكاساً لها - عن مشاعر تنبض بالود، والتأكيد على الدور الريادى للندوة، وتحولها إلى ورشة حقيقية تقرأ وتبدى الرأى وتناقش فى جو من الحميمية، ورعايتها للأسماء التى فرضت نفسها - فيما بعد -على الساحة الثقافية، بل وتشعبها إلى ندوات وورش أدبية ، أتابع - بالحب - أنشطتها فى التجمعات الأدبية فى كل المدن المصرية.
بدأت ندوة المساء فى 1985 . كنت قد ابتعدت عن مصر أكثر من ثمانى سنوات، وأردت أن أصل جسور صداقة بين جيل الأدباء حينذاك وبينى، الصداقة الأهم التى نشأت فى ظل الندوة هى التى كانت بين أدباء الأجيال المختلفة.
بدأتها بمفردي. نشرت عنها فى" المساء " ، وانتظرت. مضت بضعة أسابيع قبل أن يأتى أول الأصدقاء : الأديب نيازى مصطفى. طلب أن أناقشه فى قصة قصيرة له، وتناقشنا. ثم جاء فى الأسبوع التالى بصحبة الأديبين ناصر أحمد وخالد عبد المنعم. ثم اتسعت الدائرة لتشمل عشرات الأدباء الذين أعتز - شخصياً - بصداقتهم، وأصبحت أهم ندوات القاهرة ، من حيث النواحي التطبيقية فى أنشطتها، سواء فى الكم أو الكيف. أما الكيف فقد تحدث عنه العديد من كبار الأدباء والنقاد الذين شاركوا فى أنشطة الندوة. وأما الكم فإن القائمة تطول إن حاولت أن أشير إلى كل الأسماء.
كانت الندوة - باختصار أرجو ألا يكون مخلاً - ورشة أدبية تعنى بتقديم أجيال جديدة من الأدباء، فضلاً عن مناقشة إبداعات الأجيال الأدبية. حققت التقاء كل التيارات، وكل الأجيال، سعياً لتقديم أعمال أدبية تحرص على القيمة الفنية، وتعبر عن واقعنا المعاش، بلا خطابة ولا جهارة ولا افتعال، وتطمح إلى تقديم أدب مصرى يعبر عن الخصائص المصرية، والمحلية المصرية، توقاً لمسايرة الأدب العالمى فى أكمل تطوراته.
عندما تتحول الندوة إلى ورشة أدبية، تعين الأدباء على التعرف إلى الأساليب الفنية الصحيحة، وتساعدهم على تقويم محاولاتهم، فإنها تحقق الهدف من تنظيمها. أما أن تصبح مجرد جلسة للدردشة والنميمة والغمز واللمز والنيل من عباد الله، فإنها تصبح شيئاً آخر لا صلة له بمعنى الندوة الأدبية، وأية ندوة تنظم فى هذا الإطار مطلوبة، وكلما زاد عددها، اتسعت الفائدة، والندوات المهمة الآن كثيرة، موزعة فى العديد من التجمعات الثقافية داخل القاهرة وخارجها. يديرها - فى الأغلب - من كانوا أعضاء نشطين فى ندوة المساء.
كم أشعر بالسعادة وأنا أتعرف إلى أسماء مبدعى الندوة فى إصدارات الكتب والدوريات والمؤتمرات والمهرجانات ووسائل الإعلام.
إنهم فرسان الساحة الثقافية!