تريثَتْ قليلا قبل دخولها مملكتَه، فتحت أبوابَ قلبِها على مصاريعِها ترحيبا بها، تجولتْ مُقلتاها سريعا حول مملكته من الخارج، وجدَتْها تشبه القِلاع الصغيرة في الروايات الأوروبية، أخذَتْ نفَسا عميقا محمَّلا ببعض التوتر، وبين رهبتِها ورغبتِها لبَّت طلبَ زيارةِ ذلكَ الفارس الكهل الذي ظهر أمامها من ثلاثة أزمان مرت، ولم يخضع لسياط الزمن، يقف شامخا في استقبالها بابتسامةٍ أشعرَتها بالطمأنينة، وتقدمت نحوه يدور في ذهنها سؤال: "هل هو رجل من الواقع أم من الخيال؟ تلك التجاعيد لا شك أنها ستنفخ جُذوة الخيال المطفأة في رُوحي، قطع حديثَها مع نفسها قائلا:
ــ لقد أطلتُ التفكيرَ في المجئ عدة أشهر، تلك الأشهر ستؤثر على المدة التي ستقضيها بجواري، لم يعد هناك وقت.
ــ لا تقلق، أنا عفريتةٌ في اقتناء الكنوز.
ابتسم قائلا: لا بأسَ أيتها المشاكسةُ الصغيرة، تفضلي..
فكانت غرفتُه أولَ مكانٍ تطؤه ققدماها، غرفةٌ كبيرةٌ بها كَنزٌ من عصور مختلفة مضت من بُلدانٍ أوروبيةٍ وعربية، جو هادئٌ وموسيقىٰ إسبانية على الجيتار تداعب إنسيابيةَ المشاعرِ والأفكار، فاجأها بقوله:
ــ أعجبني تحدِّيكِ لأغلالِكِ التي تسحبينها معكِ في قدميك وقبل قدميك عقلك
"يا الهي، كيف له أن يرى قيودي التي أخفيها" فضَّلتِ الصمتَ وعدمَ الرد، فرؤيته السلاسلَ التي تخفيها واختيارُه التقربَ إليها، يرفع عنها حرجَ كتمِ أسبابِ اصطحابها لتلك القيود والأغلال، أما هو فما كان منه إلا أن اقتربَ من عينيها ليخبرَها أن بعد لمعانهما تمردًا مطعمًا بالأصالة:
ـ هل تتفقَّدُ الأصالةَ أمِ التمرد؟
بل الحياةَ برُمَّتها، أنت مزيجٌ من الطبيعةِ الهادئة وأعاصيرِها الثائرة
حاولت هي الأخرى التمعنَ بمقلتيه، ولكن لم ترَ شيئا من السحابة الطبابية التي أتقنت صناعتَها الخمسون عامًا الفارق العمري بينهما معلنةً "لن تخترقي فضائي إلا إذا فتحه هو لكِ"
قررت الاستمتاعَ بما يجود به وما يصوغه من جواهر الحكمة البليغة في كلمات تختزنها الذواكر، أعطاها المساحةَ للتجول، هناك بين أرفف المكتبة، ذكرى من سبعين عاما مضت في هيئة صورة، اصطبحها داخلها، كان مراهقًا طريَّ العود، يصطف مع زملائه الأزهريين يرتدون العمة الأزهرية والجلباب، لاحظتْ هي سلاسلها تطول وتعطيها البراح في التجوال، شاركته خطواتِه السريعةَ المتجهةَ نحو حلقة الذكر، وما أن وصل إليها، شرع في الصلاة، ولم ينته من صلاته حتى نهرَه جده، صارخا محذرا له أنه من كثرة صلاته لن يركعها وهو مكلف بها في كبره، قام من صلاته مكتفيا بهذا القدر راجيا الله أن يغفر له ذنبه في نظراته لسِيقانِ فتاةٍ تغسل أوانيها على شاطئ الترعة، قام من محرابه إلى حلقة الذكر، واندمجت هي الأخرى مع الذاكرين، لمحته بطرف عينيها يجلس وأمامه كتاب "شمس المعارف" والنساء يصطفِفْن واحدةً تلو الأخرى ينتظرن دورَهن في أخذ حجابٍ يحفظهن من عين الحسود، مشت بإيقاعٍ سريعٍ نحوه، يالها من فرصة جيدة لتعلم هذا العلم الذي يسيطر على عقول فئة كبيرة من الناس، قيودها ترتخي وسلاسلُ قدميها تعطيها البراحَ للحركة والاقتراب منه ومن كتابه المثير، تناولت ريشة، وضعَتْها في المِحبرة، تتبعت بعينها كتاباتِه المفهومة وغير المفهومة، شرعت في كتابة أول كلمة، نزلَتْ صفعةً كالصاعقة على خدها أدارت جسدَها سبعَ لفات متتالية فوق التراب، وصلت في اللفة السابعة إلى الأسفلت، ظلت لبضع دقائق منبطحةً على وجهها فاغرة فاها، غير مستوعبة ما فعله هذا الكهل الصغير:
كيف لهذا الكهل أن يلطِمَ وجهي هكذا، كادت قيودي تلتف حول جسدي فتمزقه، قامت مزمجرة، تنظف ملابسَها من الأتربة، تنظر يمينا ويسارا "أين هو ؟" لتفاجأ أنها في الحرم الجامعي، أيعقل أن يكون ساحرا يضرب بعصاه فيشقَّ طريقا ويردمَ آخر؟!
فإذا به شاب يافع يقف وسط زملائه وزميلاته اللاتي يرتدين الفساتين القصيرة، يرتدي بذلة أنيقة وربطة عنق متناسقة الألوان، تداهم نظراتُ عينيه المليئةُ بالحب العذري خجلَ زميلته وابتساماتِها المتوارية، قدَّم لها شهادة تقدير من رئيس الجمهورية لحصوله على المركز الأول على دفعته في أربع السنواتِ دراسةً في الجامعة قائلا: "جئتك بمهرك من رئيس الجمهورية"، تشابكت أصابعُهما وانطلقا سويا.
أخذت بسلاسلها تجرها وراءه، متحيرة من أمره، أهو الشيخ الملتزم الريفي أم الحبيب الرومانسي الحضري، ربتت علىٰ كتفه منهيةً اللحظات الرومانسية بينه وبين محبوبته: ألا يكفي هذا ؟! انظر إلى حالي أنا قليلا، انظر ماذا فعلت؟!
ينظر مقهقها إلى سلاسلها التي تحملها وملابسها المتربة، سألته: متى نعود؟
لا تخافي، تتبعي سلاسلك، ستُرجِعك أي وقت تشائين، ألا تريدين معرفة طرقة الحمام المحشي بالفريك؟
وضعت يدها على وجهها مع حركة امتعاضية: يا إلهي، يبدو أنني سأحمل سلاسلي وأغلالي وأنطلق من أمامه إلى حيث جئت دون ندم، هذا الكهل يهتم بالفنون التي أكرهها وأهرب منها، يبدو أننا غير متفقين ولن أستطيع مصاحبتَه أكثر من ذلك.
وإذا بطفل يحبو ورائحة الحمام المحمر في الزيت تفوح، والجو الأُسَري المعتاد يملأ المكان، كان هو الأبَ الجالسَ على مائدة الطعام وحوله أولاده من الذكور والإناث، أرادت أن ترحل فعاندتها سلاسلها وأصابتها بالشلل، فما كان منها إلا أن جلستْ بجواره على مائدة الطعام، انتظرتْ منه تعليقا مشبعا بالشماتة لشلل حركتها، لكنه نظر إليها بطمأنية وهدوء دون التلفظ بحرف، وآثر مضغَ الطعام على مهل، استعادت رعونتها ووجهت له سؤالا: ألن تنتهيَ من هذا الفصل الممل؟
لكنه استمر في سكينته وتَلَذُّذَه في تذوق الطعام ، يبدو أنه لا يود إنهاء سكينته هذه، فوضعت رأسها على المنضدة لتغفوَ قليلا، الأضواء تداعب عينيها، تفتحهما تارة، وتغلقهما تارة أخرى، أصوات الموسيقى الصاخبة تقلق غفوتها
ياله من كهلٍ متغيرٍ وغريب الأطوار ،هذه الضوضاء لا تناسب حالة سكينته، وترفع رأسها الثقيلة يملؤها الصداع، تنظر حولها بدهشة، تفرك عينيها لتتاكد مما ترى، فإذا به رجل أربعيني يجلس داخل ملهى ليلي يقع في أفخم شوارع إسبانيا ، يجلس أمامه إحدى العاهرات، ينصت إليها جيدا، لم يكن ينظر إلى مفاتنها الأنثوية، بل كان يراقب لغة جسدها، حركة أصابعها على جبينها وبين موجات شعرها، وبعد انصرافها ينكب على أوراقه ويكتب، بينما ذات السلاسل والقيود انشغلت في تأمل أجساد الراقصات والعاهرات العاريات، وصفاتهن الأنثوية، كأنها تتخير الملكة بينهن والوصيفتين
يا لهن من نساء جميلات مثيرات، نحيفات أيضا، كيف له أن يعزف عن كل تلك الصفات المثيرة لجنس الرجال وكأنه يبلغ من العمر ألف سنة وينشغلَ بالكتابة؟! لقد تمتعن بجمال الكون كله، ورشاقته أيضا، لقد امتلأ خصري قليلا، بل كثيرا، سأحتاج إلى جهد كبير كي أصل إلى وزنهن فأكون مثلهن، وقف خلفها يوشوش أذنيها:
بل تحتاجين إلى أخرى
سحبت نفَسا عميقا يملؤه الغيظ:
وما الذي ينقصني؟ّ!
أسرع بقوله: من يسقط في عشقهن لابد أن يكون جنديا متأهبا، فأعداؤه كثر، يتنازعون على إيماءة منهن، غفلة واحدة تعيده إلى الصفوف المهملة، أجسادهن تحمل مئات الحكايات، وقلمي يترجمها.
سألته بمكر: هل فاتني شيء أثناء غفوتي؟!
فأمسك بإناء الثلج الممتلئ بالماء البارد وصبه في حركة فجائية فوق رأسها:
فاتك ألا تضعي نفسَك أو غيرَك في مقارنة بلهاء، ولا تقحميها في ما يخص غيرها
صدمة الثلج والماء البارد أفقدتها لثوانٍ استيعابها ما فعله، وبعدوإعمال العقل، وقبل أن تنفجر صراخا في وجهه لم تره أمامها ، جلست تُنَهنه كالأطفال، وتجز على أسنانها غيظا منه ومن أفعاله، لمحته يتوجه إلى الخارج، حثتها قيودها على تركه، وراودها فكرها أن تتبعه لترتشف الأكثر من جولاته الزمنية برغم معاناتها، حملت سلاسلها وهرولت علها تلحقه، لم تجده، تجولت في شوارع إسبانيا إلى أن لمحته، مع أول ضوء للشروق، ها هو هناك وسط المبشرين، ماذا يفعل مع أصحاب الديانات الأخرى، اقتربت أكثر، بدأ كمفكر عربي إسلامي يتحاور معهم ويرد على أسئلتهم الشائكة، فقد تم استدعاؤه من قبَلهم قبل الانطلاق في بقاع الأرض لأداء وظيفتهم في التبشير والدعوة إلى الأديان الأخرى، حالة من الخشوع انتابتها مثلهم، جلست على ركبتيها تستمع، وقف كالمجاهد يحمل كلمته كالسيف، يصحح مفاهيم خاطئة عن الإسلام وعباداته ورسوله الكريم، فتساقطت حججهم التي بنوها على معلومات خاطئة كأوراق الخريف، وضعف استعدادهم لأداء وظيفتهم.
هذا الكهل كم شخصية يمتلكها؟ّ كلما صاحبتَه ازدادت حيرتي فيه، ألف سؤال دار في ذهنها
انصرف الجميع ولم يبق سواها، رأى كلَّ تساؤلات عينيها، أخذ بكتفيها ينهضها، تراءى لها ما وراء السحابة الضبابية داخل عينيه، هاهي بعض المشاهد تتضح، ابتسم بطمأنينة كابتسامته الأولى:
لا تحتاري، الكون يحث دوما على الانتقال والحركة، ويؤسس بالتغيير لكل ماهو جدير بالاستمرارية، فالتغيير ينطق به أكبر الكائنات وأصغرها، بعضنا يملك أن يكون مخلدا لا محالة، ولكن المخلد لا تربطه سلاسل، ولا تتحكم فيه قيود
تركها وابتعد، يود الانسحاب، وتود أن تلحقه، تمنعها سلاسلها، ثقل أصبح غير مرغوب فيه، تراه يبتعد أكثر،
انتظر انتظر
تُسرِع الخطى تمنعها قيودها ، تنحني لأول مرة للتخلص منها، المحاولة أدمت يديها وقدميها لكنها نجحت في الخلاص، ركضت وركضت نحوه، حال جدار سميك شفاف بينهما، تضرب بكفيها علية بقوة، صارخة:
أيها الكهل لا ترحل.. لا تتركني الآن.. انتظر قليلا
يختفي بين ضباب كالذي كان في عينيه، حجبه عنها، نظرت إلى السلاسل من بعيد، أعرضت سلاسلها وقيودها عنها "لم يعد حجم قدميك يناسبنا" استلقت على ظهرها خائرة القوى، وشعاع نور يداعب وجهها، وثمة ألوان مبعثرة.