بعد تلك القرون الطويلة، ورغم الأزمات المُحدِّقة بنا من كل صَوْبٍ وحَدَبٍ، لا يزال العالم أجمع لا يُخفِي انبهاره بك أيها المصري، ولا يُخفِي عقدة المصري، والتي حوَّرها وصدرها إلينا زورًا وبهتانًا بمُسمَّى عقدة الخواجة.. هذه الحقيقة يدركها كل من تعامل مع أبناء البشرات الصفراء والحمراء والسوداء وبجميع الألوان.
هذا الأمر يجب أن تعيه جيدًا.. أنت مميز عن كل العالم بشهادتهم هم؛ فهم من أكدوا في دراساتهم أن المصري يولد بجينات عبقرية، وهم مَن يُفاجَؤون كل يوم بعقول مصرية تقطف من أعينهم زهور الذهول من العقلية المصرية، كما أن التاريخ شهد لك بعقدة أخرى، وهي العزيمة التي تذيب الصخر،
لذا لا تتوقف مساعيهم لامتلاك أو استغلال هذه العبقرية، والتي طالت حتى أطفال الشوارع، فقد لا يعلم الجيل الحالي أن دولًا أوروبية كانت لها محاولات متكررة لتبنِّي أطفال الشوارع؛ لتعليمهم واستثمار العبقرية المختزلة داخلهم. ومؤكد أنه لا يعلم أن ألمانيا تتابع طلاب بعض الجامعات المصرية؛ لاقتناص المتفوقين منهم، وكمثال كليات الصيدلة والعلوم والهندسة.
كما لا يعلم أن العقول المهاجرة لا يساوونها بعقولهم، بل يُميِّزونها؛ لإدراكهم بثرائها الفكري.
هم ليسوا أذكى منا، هم أصدق منا؛ لذا يُصرِّحون بإعجابهم بعقولنا بنفس قوة إعجابهم بحضارة الفراعنة.
هذه الحقيقة تكشفت لي في بدء عملي مع محررين إنجليز أوائل عام 1992، والذين تعلمت منهم الجدية والانضباط في العمل، ثم تبين لي أنهم ليسوا بالصورة التي يروجون لها، وأن إتاحة نفس الظروف والبيئة كفيلة بأن تجعلك تبدع، وتتجاوزهم بمراحل.
ثم تأكدت هذه الحقيقة من خلال مسيرة حياتي العملية مع ألمان وفرنسيين وأمريكان وهولنديين وأستراليين وإيطاليين وإسبانيين ونرويجيين ويابانيين، ووجدتهم جميعهم يشتركون في شيء واحد، وهو أن عقولهم كتالوج كما أُنزِلَ، فأنت تتعامل مع عقول منظمة مبرمجة مجدولة، أما الجانب الإبداعي فلا يظهر إلا في الأعمال الفنية، وما عداها فأنت أمام عقول آلية بكل معاني الكلمة.
كثير منا سمع مثلًا عن الطفل المصري عبدالرحمن فيصل الذي فاز بالمركز الأول والطالبة روان هاني أحمد محمدين الفائزة بالمركز الثاني على جميع أطفال العالم في مسابقة U C MAS، والتي أقيمت في العاصمة الماليزية كوالالمبور، وأعلن رئيس اللجنة انبهاره في كلمة واحدة: مصري.
هل يعلم الجيل الحالي أن مخترع الروبوت مصري من الإسكندرية، على ما أذكر أن اسمه مصطفى السيد، وكتبت عنه جريدة المساء في أوائل الثمانينيات أثناء نزوله لزيارة أهله، كما استضافته القناة الثانية وقتها؟
وهل تعلم أن مخترع المفاعل النووي هو العالم المصري محمد النشائي بنظريته التي سمَّاها الفوضى المحددة في سنة تخرجه في كلية الهندسة بألمانيا وسعي جامعة كامبريدج لضمِّه لأساتذتها، وأنه حاصل على شهادة أعظم ثالث عالم في تاريخ البشرية، بعد نيوتن وأينشتاين عام 2005، بحضور أعظم 500 عالم على سطح الأرض، مع ملاحظة أن الترتيب زمني؟
وهل تعلم أن السيارة الطائرة التي يتحدث العالم عنها منذ عام 2021؛ بوصفها قفزة حضارية هائلة، مخترعها الأصلي هو شاب مصري، واسمه رفعت همام، وأنه اخترع سيارة تحلق في الهواء بسرعة 280 كيلومترًا في الساعة قبل 2013، وأنه اخترع جهازًا يولد الكهرباء من الجاذبية الأرضية في 2008، وأقام محطات في لبنان والمغرب وكوريا الجنوبية، كما اخترع جهاز تحلية مياه البحر عن طريق الأمواج دون الحاجة لطاقة كهربائية أو بترول؟
الأمثلة على عقدة المصري في الجانب العلمي لا حصر لها، ولكن يبقى دائمًا سؤال منطقي: لماذا هذا حالنا؟ الإجابة ببساطة أننا نعيش مؤامرات لا تفتر ولا تتوقف.. مؤامرات منذ عصر قدماء المصريين، لماذا؟ لأن مصر ليست مجرد دولة تتعثر وتنهض، وإنما هي كيان ضخم، عندما تقوم، فإنها تُقيم المنطقة كلها، وتُسقِط كل أطماع الغرب ومن على شاكلتهم. وهذه الحقيقة تجددت عندما صعد محمد علي باشا بدولة كانت مأوى لخفافيش وعناكب الجهل الذي فرضته دولة الأغوات، وفاجأ العالم بامتداد مصر بخطوط الطول والعرض، حيث وصلت لعمق قارة أفريقيا، وامتدت إلى جزيرة العرب، فحقق في وقت وجيز ما لم تحققه قارة بأكلمها، وكان هذا أخطر مؤشر يلفت أنظار العالم إلينا، فكان لا بد من تكبيلها؛ لذا فنحن الدولة التي تتحرك وهي مكبلة بقيود، وتصمد أمام الطعنات من كل اتجاه وفي جميع المجالات، ورغم ذلك لا تسقط، بل تظل يجري في عروقها سر الحياة، ولو أن مؤامرة واحدة وُجِّهت لأي دولة عظمى، لمحتها من خريطة العالم.
إنها عقدة المصري العسكرية التي حيرت كل بقاع الأرض، فمع كل انكسارة تنهض الدولة أقوى وأشد، ومن رحم الوهن تولد أعظم انتصارات.. انظر كيف قضى المصري على أخطر وأشرس حملة صليبية بقيادة لويس التاسع، وكانت الدولة وقتها تئن من أزمات كثيرة.
وافخر بعزيمة الجندي المصري، التي حطمت جحافل المغول والتتار التي اكتسحت كل ما في طريقها قتلًا ونهبًا وحرقًا، وعند الاقتراب من مصر لاذت تلك الوحوش بالفرار، لاذت وهي تحمل ثقافتنا إلى قارة آسيا، في أحلك فترة شهدتها مصر، من تصارُع على السلطة وفتن وكوارث، وفي الشدة ظهر دور عالم الدين العز بن عبدالسلام، الذي أفتى بجواز فرض ضرائب لتجهيز الجيش الذي قضى على غيلان كتبغا المغولي.. اقرأ تاريخك لتعرف إلى أي مدى مصر فيها سر الحياة، لتدرك حقيقة عقدة المصري.
واقرأ تاريخ الحضارات؛ لتتعجب كيف كانت تملأ الدنيا، وفي لحظة تحولت إلى آثار، إلا مصر، التي لا يزال بريقها يلمع، يخبو قليلًا، ثم ينصهر كالذهب؛ ليعود لصفائه.. ذلك الصفاء الذي يسبب للعالم تلك العقدة المستوطنة.. عقدة المصري.
آراء حرة
عقدة المصري
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق