قال البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرَّاعي في عظة الأحد الثاني بعد الدنح
اولا عندما سمع تلميذا يوحنّا شهادته عن يسوع أنّه "حمل الله الذي يحمل خطيئة العالم"، تبعاه وسألاه: "يا معلّم أين تقيم؟"فأجابهما يسوع: "تعاليا وانظرا" (يو 1: 39). هذه الدعوة موجّهة إلى كلّ واحد وواحدة منّا، بل إلى كلّ إنسان يأتي إلى العالم، لكي يجد معنى لحياته، ويندرج في مسيرة طريق الخلاص، ويعيش بفرح السلام.
واضاف قائلا: "يسعدنا ان نحتفل معكم بيوم السلام العالميّ الذي دعت إليه اللجنة الأسقفيّة "عدالة وسلام" برئاسة المطران مارون العمّار رئيس اللجنة، ومؤآزرة نائب الرئيس اخينا المطران جول بطرس والاعضاء. درجت العادة في لبنان أن نحتفل بهذا "اليوم" في الأحد الأوّل الذّي يلي أوّل كانون الثاني من كلّ سنة. لكنّنا أرجأناه إلى هذا الأحد، بسبب وجودنا في لندن لزيارة راعويّة لرعيّتنا المارونيّة والجالية اللبنانيّة، وجاليات البلدان العربيّة.
فالغاية من "يوم السلام العالميّ" التأمّل في السلام ومقتضياته وقيمته في حياة الشعوب، والصلاة من أجل إحلال السلام في الأوطان وفي العالم كلّه. إعتاد البابوات توجيه رسالة بشأن السلام. فوجّه قداسة البابا فرنسيس رسالته لهذه السنة بموضوع: "لا أحد يستطيع أن يخلص لوحده"، مستوحيًا إيّاها من سنوات وباء الكورونا الثلاث، وممّا علّمتنا، من أجل أن "نرسم معًا دروب السلام". وقد اختارت لجنة "عدالة وسلام" أشخاصًا لتكريمهم في ختام هذا الإحتفال.
وفي إطار تعزيز السلام بوجهه الإجتماعي والإقتصاديّ والطبّي والتربويّ ، نرحّب فيما بيننا بالنقباء: بشارة الأسمر نقيب الإتحاد العمّالي العام، وجو سلّوم نقيب الصيادلة، ونعمه محفوظ نقيب المعلّمين. فإنّا معهم نشجب وندين الممارسة السيئة من قبل المسؤولين الذين أوصلوا البلاد إلى هذا الدرك من الفقر المدقع، والإنهيار الكامل للقطاعات الأساسيّة والمؤسّسات، وإلى هذه الحالة من الفساد والتهريب والتزوير المدعومة من النافذين في السلطة.
مع هؤلاء النقباء وكلّ الشعب اللبنانيّ نطالب المجلس النيابيّ والكتل النيابيّة الكفّ عن هدم البلاد والمؤسّسات وعن إفقار المواطنين. وندعوهم لإنتخاب رئيس للجمهوريّة وفقًا للدستور، رئيسٍ يسهر على الإنتظام والخير العام والدستور، متجرّد من أيّة مصلحة شخصيّة أو فئويّة، رئيسٍ عينه شبعانة، يأتي ليسخو في العطاء، لا ليأخذ.
وفي إطار السلام العادل، وانتصار العدالة على الظلم، أرحّب بعائلات ضحايا تفجير مرفأ بيروت. لقد جاء توقيف عزيزنا وليم نون، المجروح في صميم قلبه بفقدان شقيقه الغالي بتفجير مرفأ بيروت، ليبيّن أنّ القضاء أصبح وسيلةً للإنتقام والكيديّة والحقد. وإنّ الأجهزة الأمنيّة تلبس ثوب الممارسة البوليسيّة: وليبيّن فلتان القضاء بحيث صار يحلو لأيّ قاضٍ أن يوقف أيّ شخص من دون التفكير بردّات الفعل وبالعدالة ألا يَخجلوا من أنفسِهم الّذين أمروا باعتقالِ هذا الشابِّ المناضلِ وبدهمِ منزلِه وسجنِه غيرَ عابئين بمآسيه ومآسي عائلته وكلِّ أهالي ضحايا المرفأ، وغيرَ مبالين بردّةِ الشعب؟ ثم يستدعون مناضلَ آخرَ بيتر بو صعب وهو شقيق شهيد آخَر. هل يوجد في العدليّةِ قضاةٌ مفصولون لمحاكمةِ أشقاءِ شهداءِ المرفأ وأهاليهم؟ إنّنا نقدّر وقفة إخواننا السادة المطارنة وأبناءنا الكهنة والرهبان والسادة النوّاب والمواطنين، مستنكرين بتضامنهم هذه الممارسات المقيتة التي تقوّض أساسات السلام.
وفي إطار السلام الإجتماعي العادل، نرحّب بموظّفي الدوائر العقاريّة الذين يرفعون إلينا ظلامة حملة التوقيفات الجارية في الدوائر العقاريّة في جبل لبنان حصرًا. ويطلبون إلينا التدخّل لرفع هذه الظلامة.
واستطرد قائلت وأوجّه تحيّة خاصّة إلى عائلة المرحوم ريمون شديد، نقيب المحامين السابق في بيروت الذّي ودّعناه معها بكثير من الأسى وبالصلاة. كما نحيي عائلة نسيبنا المرحوم جوزف غبريل. فجرحت وفاته القلوب جرحًا بليغًا. إنّنا نصلّي لراحة نفسيهما في السماء، ولعزاء عائلتيهما.
ويدعونا قداسة البابا فرنسيس في رسالته لمناسبة "اليوم العالميّ للسلام" بعد سنوات الكورونا لأن نتساءل ونتعلّم ونتحوّل بقوّة النعمة، أفرادًا وجماعات: "لقد قلت مرارًا من قبل إنّنا لا نخرج من الأزمات كما كنّا: إمّا أن نخرج منها أفضل أو أسوأ. اليوم نحن مدعوّون لنسأل أنفسنا: ما الذي تعلّمناه من الوضع الذي خلّفته الجائحة؟ ما هي الطّرق الجديدة التي يجب أن نسلكها للتخلّي عن قيود عاداتنا القديمة، ولنكون أكثر استعدادًا، ولنتجرّأ ونَقبل ما هو جديد؟ ما هي علامات الحياة والرّجاء التي يمكن أن نجنيها لنتقدّم ونصنع عالـمـًا أفضل؟"
واضاف قائلا ويتساءل قداسته عن الأمثولة التي تعلّمناها فيقول:"بالتّأكيد، بعد أن لمسنا الهشاشة التي تميّز واقعنا البشريّ وحياتنا الشّخصيّة، يمكننا القول إنّ أكبر درس تركته لنا الكورونا، هو الوعي بأنّنا جميعًا بحاجة بعضنا إلى بعض، وأنّ أكبر كنز لدينا، ولو كان أكثر هشاشة، هو الأخوّة الإنسانيّة، التي تنبع من البنوّة الإلهيّة المشتركة، لذا، لا يستطيع أحدٌ أن يخلُص لوحده. لذلك من الضّروريّ أن نبحث من جديد عن القيَم العالميّة ونعزّزها من أجل رسم مسيرة هذه الأخوّة الإنسانيّة. وعلّمتنا أيضًا أنّ الثّقة الموضوعة في التّقدّم والتّكنولوجيا ونتائج العولمة تحوّلت إلى حالة من التّسمّم الفردي ذي الطابع الصنمي، المقوّض للعدل والوفاق والسّلام. إنّ أوضاع عدم التّوازن والظّلم والفقر والتّهميش، غالبًا ما تؤدّي إلى الصّراعات، والعنف وحتّى الحروب. وعلّمتنا كورونا كذلك العودة المفيدة إلى التّواضع، وتحجيم بعض الادّعاءات الاستهلاكيّة، والإحساس المتجدّد بالتّضامن الذي يشجّعنا على الخروج من أنانيّتنا، لكي ننفتح على معاناة الآخرين واحتياجاتهم بالتفاني والبذل والعطاء، مثلما فعل كثيرون عندما تفشّى الوباء.
وبنتيجة هذه الخبرة كان الوَعي الداعي جميع الشّعوب والأمم، إلى أن يضعوا من جديد أمام اعينهم الكلمة ”معًا“. في الواقع، بالأخوّة والتّضامن، نحن معًا نبني السّلام، ونضمن العدالة، ونتجاوز أشدّ الأحداث إيلامًا. لقد رأينا كيف أنّ جائحة كورونا شَهِدَت المجموعات الاجتماعيّة، والمؤسّسات العامّة والخاصّة، والمنظّمات الدوليّة تتَّحد لكي تواجه التّحدّي، تاركةً جانبًا مصالحها الخاصّة. إنّ السّلام الذي يُولَد من المحبّة الأخويّة المتفانية، وحده يستطيع أن يساعدنا لنتغلّب على الأزمات الشّخصيّة والاجتماعيّة والعالميّة".
ويختم قداسة البابا رسالته بهذا الدعاء: "أتمنّى أن نتمكّن في السّنة الجديدة من أن نسير معًا، ونتعلّم من التّاريخ. وإنّي أقدّم أطيب التّمنّيات إلى رؤساء الدّول والحكومات، وإلى رؤساء المنظّمات الدّوليّة، وإلى قادة الدّيانات المختلفة، وإلى كلّ الرّجال والنّساء أصحاب النّوايا الحسنة متمنّيًا لهم سنة جديدة سعيدة وأن يكونوا صانعي سلام يبنونه يومًا بعد يوم! ومريم الكليّة الطّهارة، أمّ يسوع وملكة السّلام، فلِتَشفَعْ بنا وبالعالم أجمع".
كم يؤسفنا أنّ المسؤولين عندنا لم يتعلّموا شيئًا من جائحة كورونا، فظلوا ضحايا كورونا فسادهم وكبريائهم وأسر مصالحهم وحقدهم وسوء نواياهم ومرضهم التخريبيّ: فلا انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة، ولا صلاحيّات كاملة لمجلس الوزراء، ولا من وضع حدٍّ للإضطراب القضائي والفلتان الأمنيّ، وللتعديات على أملاك الغير، ولشحّ الطاقة.
ومن المؤسف أيضًا بل والمخجل أنّ دولًا عربيّة وغربيّة تعقد لقاءات وتتشاور في كيف تساعد لبنان للنهوض بدءًا من انتخاب رئيسٍ للجمهوريّة فيما المجلس النيابيّ مقفل على التصويت، متلطّيًا وراء بدعة الإتفاق مسبقًا على شخص الرئيس، وهم بذلك يطعنون بالصميم نظامنا الديمقراطيّ البرلمانيّ (مقدّمة الدستور "ج")، ويقلّدون ذواتهم حقّ النقض. على هذا او ذاك من الاشخاص.
مضيفا فيا أيّتها الجماعة السياسيّةُ، أيَتها الأحزاب، أيَها النواب: لقد اسْتنفَدْتُم جميعَ الوسائلِ والمواقفِ والمناوراتِ وتَبارَيتم في التحدّيات والسِجالات، ولم تَتوصّلوا إلى انتخابِ رئيسِ تحدٍ ولا رئيسِ وفاقٍ ولا أيِّ رئيس. هذا يَعني أنّكم ما زِلتم في مَنطقِ التحدّي. لا شعبُ لبنان ولا نحن نَحتمل تحديًّا إضافيًّا على صعيدِ الرئاسةِ ولا على غيرِ صعيد. حذارِ حذارِ: فجَوُّ المجتمعِ تَغيّر. النفوسُ تَغلي وهي على أهبة الانتفاضة. لم يَصِل أيُّ شعبٍ في العالمِ إلى هذا المستوى من الانهيارِ من دون أن يَنتفضَ ويثور أكان في دولةٍ ديمقراطيّةٍ أم في دولةٍ ديكتاتوريّة.
لإنَّ إطالةَ الشغورِ الرئاسيِّ سَيَتبعُه بعد مدّةٍ شغورٌ في كبرياتِ المؤسّساتِ الوطنيّةِ الدستوريّةِ والقضائيّةِ والماليّةِ والعسكرية والديبلوماسيّة. منذ الآن نُحذِّر من مخطَّطٍ قيدَ التحضيرِ، لخلق فراغٍ في المناصب المارونيّة والمسيحيّة. وما نُطالبه لطوائفِنا نطالبُه للطوائفِ الأخرى. لكنّنا نلاحظُ تصويبًا على عددٍ من المناصبِ المارونيّةِ الأساسيّةِ ليَنتزِعوها بالأمرِ الواقع، أو بفبركاتٍ قضائيّةٍ، أو باجتهاداتٍ قانونيّةٍ "غُبّ الطلب"، أو بتشويه سمُعةِ المسؤول. نحن لا ندافع عن أشخاصٍ بل عن مؤسّسات. لا يَهِمُّنا رئيسَ مجلسِ القضاءِ الأعلى بل القضاء، ولا يَهِمُّنا حاكمَ مصرَفِ لبنان المركزيِّ بل مصرَفَ لبنانَ المركزيّ، ولا يَهِمّنا أصحابَ المصارف بل النظامَ المصرفيَّ اللبنانيَّ وودائعَ الناس، ولا يَهِمّنا تشريعَ الكابيتال كونترول بعدما فَقد مفعولَه، بل الحفاظَ على الاقتصادِ الحرّ وحريّةِ التبادلِ مع الخارج. لكن ما نَرصُده هو أن التركيزَ على الأشخاصِ يَستهدفُ هدمَ المؤسّساتِ التي يَقوم عليها النظامُ اللبنانيّ وتطييرَ أموالِ المودِعين. تكلمنا عن كل هذه الامور لاننا نحتفل بيوم السلام العالمي، فلا فائدة من الكلام عن السلام في الهواء اذا كان السلام مفقودا في حياتنا اليومية. فالسلام يُبنى وهو أُنشد على الارض يوم ميلاد يسوع المسيح. انشده الملائكة :"المجد لله في العلى وعلى الارض السلام".
خسر لبنان هذا الأسبوع دولةَ الرئيس حسين الحسيني الذي برز في الحياةِ السياسيّةِ اللبنانيّةِ رجلَ دولةٍ يَحترم الدستورَ ويَلتزم الميثاقَ ويَنفتح على جميعِ المكوّناتِ اللبنانيّة من أجلِ تعزيز وِحدةِ لبنان في إطارِ اتّفاقِ الطائف الذي لا يزال كاتمَ أسرارِه وملابساتِه. وإذ نعرب عن حزنِنا على فقده، نقدّم إلى مجلسَي النواب والوزراء وأفراد عائلته وأنسبائه وعارفيه، تعازينا الحارة.
و في خضمّ الضياع وفقدان عطيّة السلام، فلنبحث، أين يسكن يسوع؟ يسكن في كلام إنجيله وفي سرّ القربان، حيث هو حاضرٌ بيننا، لكي نجد السلام ونكون من صانعي السلام. له المجد والشكر إلى الأبد، آمين.