أجرى البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان، صباح اليوم الأربعاء، مقابلته في قاعة بولس السادس بالفاتيكان واستهلَّ تعليمه الأسبوعي بالقول نبدأ اليوم سلسلة جديدة من التعاليم، مكرّسة لموضوع مُلحٍّ وحاسم للحياة المسيحية: الشغف بالبشارة، أي الغيرة الرسولية.
وقال، إنه بُعد حيوي للكنيسة: إنَّ جماعة تلاميذ يسوع تولد في الواقع رسوليّة وإرساليّة. يصوغها الروح القدس في انطلاق، لكي لا تكون منغلقة على نفسها، وإنما منفتحة وشاهدة مُعدية ليسوع، تمتدُّ لكي تُشعَّ نوره إلى أقاصي الأرض. ولكن قد يحدث أن يتضاءل الحماس الرسولي، والرغبة في بلوغ الآخرين ببشرى الإنجيل السارة. وفي بعض الأحيان يبدو أنه قد انحجب. ولكن عندما يغيب أفق البشارة عن الحياة المسيحية، تمرض وتنغلق على ذاتها وتصبح ذات مرجعية ذاتيّة وتضعف. بدون غيرة رسولية يذبل الإيمان. بينما تُشكل الرسالة أوكسجينًا للحياة المسيحية: هي تنشطها وتنقيها. نبدأ إذًا مسيرة لإعادة اكتشاف شغف البشارة، بدءًا من الكتاب المقدس وتعليم الكنيسة، لكي نستقي من ينابيع الغيرة الرسولية. ومن ثم سنقترب من بعض الينابيع الحية، وبعض الشهود الذين أعادوا إحياء شغف الإنجيل في الكنيسة، لكي يساعدوننا على إعادة إحياء النار التي يريد الروح القدس أن يشعلها على الدوام فينا.
تابع البابا فرنسيس، حسب ما نشرته الصفحة الرسمية للفاتيكان منذ قليل، اليوم، أريد أن أبدأ بحدثٍ إنجيلي رمزي نوعًا ما: دعوة الرسول متى، والتي سمعناه يرويها بنفسه في إنجيله في المقطع الذي سمعناه. كل شيء يبدأ بيسوع الذي "رأى" - يقول النص - "رجلاً". قليلون كانوا يرون متى هكذا كما هو: كانوا يعرفونه كذلك الذي كان يجلس "في بَيتِ الجِبايَةِ". لقد كان في الواقع جابيًا للضرائب: أي شخص يجمع الضرائب نيابة عن الإمبراطورية الرومانية التي كانت تحتلُّ فلسطين. بعبارة أخرى، كان متعاونًا وخائنًا للشعب. يمكننا أن نتخيل الاحتقار الذي كان يشعر به الناس تجاهه: لقد كان "عشارًا". ولكن في عيني يسوع، متى هو رجل، ببؤسه وعظمته. وبينما كان هناك مسافة بين متى وشعبه، اقترب منه يسوع، لأن الله يحب كلَّ إنسان. هذه النظرة التي ترى الآخر، أيًّا كان، كموضوع حب، هي بداية شغف البشارة. كل شيء يبدأ من هذه النظرة التي نتعلمها من يسوع.
أضاف البابا فرنسيس، وبالتالي يمكننا أن نسأل أنفسنا: كيف هي نظرتنا للآخرين؟ كم من مرة نرى فيها عيوبهم لا حاجاتهم. كم من مرة نصنف الأشخاص على ما يفعلونه أو يفكرون فيه! حتى كمسيحيين نقول لأنفسنا: هل هو واحد منا أم أنه ليس منا؟ هذه ليست نظرة يسوع: فهو ينظر على الدوام إلى كل واحد برحمة وحب. والمسيحيون مدعوون لأن يفعلوا مثل المسيح، وأن ينظروا مثله بشكل خاص إلى الذين يُسَمُّون "بالبعيدين". في الواقع، تُختتم رواية دعوة متى بقول يسوع: "ما جِئتُ لأَدعُوَ الأَبْرارَ، بَلِ الخاطِئين".
واستكمل الحبر الأعظم، يبدأ كل شيء إذن بنظرة يسوع، وتليها - في المقطع الثاني - حركة. كان متى في بَيتِ الجِبايَةِ؛ فقال له يسوع "اتبعني". "فقامَ فَتَبِعَه". نلاحظ أن النص يسلّط الضوء على أنه "قام". لماذا هذا التفصيل مهمٌّ جدا؟ لأنه في تلك الأيام كان الذي يجلس يتمتّع بسلطة على الآخرين، الذين كانوا يقفون أمامه ليستمعوا إليه أو، كما في هذه الحالة، لكي يدفعوا الجزية. باختصار، كان الذي يجلس يتمتّع بالسلطة. وأول ما فعله يسوع هو إبعاد متى عن السلطة: ومن الجلوس لاستقبال الآخرين، جعله يتحرك نحو الآخرين؛ جعله يترك مركز السيادة ليضعه على قدم المساواة مع إخوته ويفتح له آفاق الخدمة. هذا ما يفعله المسيح وهذا أمر أساسي بالنسبة للمسيحيين: نحن تلاميذ يسوع، نحن الكنيسة، هل نجلس في انتظار قدوم الناس أم أننا نعرف كيف نقوم وننطلق في مسيرة مع الآخرين وبحثًا عن الآخرين؟
نظرة وحركة وأخيرا وجهة. بعد أن قام وتبع يسوع، أين سيذهب متى؟ يمكننا أن نتخيل أنه، بعد أن تغيّرت حياة ذلك الإنسان، سيقوده المعلم نحو لقاءات جديدة وخبرات روحية جديدة. لا، أو على الأقل ليس على الفور. أولاً، ذهب يسوع إلى بيته. هناك صنع له متى ضيافة كبيرة في بيته والذين كانوا متكئين معهم كانوا جمعًا كثيرًا من عشارين. عاد متى إلى محيطه، لكنه عاد متغيرًا ومع يسوع. لم تبدأ غيرته الرسولية في مكان جديد ونقي ومثالي، وإنما في المكان الذي يعيش فيه، مع الأشخاص الذين يعرفهم. هذه هي الرسالة لنا: لا يجب أن ننتظر لكي نصبح كاملين وأن نقوم بمسيرة طويلة خلف يسوع لكي نشهد له؛ إعلاننا يبدأ اليوم حيث نعيش. ولا يبدأ بمحاولة إقناع الآخرين، وإنما بالشهادة يوميًّا لجمال الحب الذي نظر إلينا ورفعنا. في الواقع، كما علمنا البابا بندكتس، "الكنيسة لا تقتنص. بل هي تتطوّر بالجذب". هذه الشهادة الجذابة والفرحة هي الهدف الذي يقودنا إليه يسوع بنظرته المحبّة وحركة الخروج التي يولِّدها روحه في قلوبنا.