أتعرف مفهوم القومية العربية؟.. الإيمان بأن الشعب العربي شعب واحد تجمعه اللغة والثقافة والتاريخ.. هل جربت أو توارد إليك تنفيذ ذلك المعنى الذي حفظناه جميعا؟ لا.. فقلة من فعلت.. وهي من وصلت، نعم أقصدها.. أقصد كوكب الشرق، الفنانة العبقرية التي غنت من كل بساتين الشعر العربي القديم والحديث والفصيح والعامي، كان هذا مفهومها القومي وتلك كان غايتها التي لم يصل إليه أحد وكأنها أرادت أن تقول لفناني عصرها "هذه ليلتي".
كان ذلك جزء من حوار دار بيني وبين صديقي ونحن نتحدث عن "ثومة" ومشروعها الغنائي، الذي تبنى مفهومها عن القومية العربية، فبخلاف شعراء العصر القديم، غنت كوكب الشرق لواحد وعشرين شاعرا معاصرين منهم سبعة شعراء من البلاد العربية والإسلامية من بينهم شاعر "هذه ليلتي".
قصة القصيدة وإلحاح عبد الوهاب بتكرار الإلقاء
جورج جرداق، ربما لا يكون معلومًا للكثير بقدر كلمات قصيدته التي يتغنى بها الصغير والكبير، فبرغم أن له العديد من الكتب في المسرح والقصة وكافة ألوان الأدب وبرغم أنه كتب أكثر من خمسين قصيدة تغنى بها كبار المطربين والمطربات إلا أن أم كلثوم هي من أهدته بطاقة التعريف للجمهور ولم ينكر هو ذلك بل قال: « «فزت بكل شىء عندما جرى شعرى على شفتى أم كلثوم».
الغريب في الأمر أن قصيدة "هذه ليلتي" ليست موجودة في دواوين شعر جرداق، وهو ما دفع الناقد الفني حنفي المحلاوي صاحب كتاب «شعراء أم كلثوم»، للبحث عن أصل القصيدة وفقا لما ذكره المحلاوي فقد حاول الوصول إلى الشاعر نفسه وقد تمكن من الوصول إلى رقم هاتفه وعلم منه أن هذه القصيدة لم ينشرها في أي مكان ولم يكن أحدا يعرف عنها شئ إلا عندما شدت بها كوكب الشرق.
هذه ليلتي وحلم حياتي
بين ماض من الزمان وآت
الهوى أنت كله والأماني
فاملأ الكأس بالغرام وهات
بعد حين يبدل الحب دارا
والعصافير تهجر الأوكار
وديار كانت قديما ديارا
سترانا كما نراها
نراها قفارا
سوف تلهو بنا الحياة
سوف تلهو بنا الحياة وتسخر
فتعالى
تعالى أحبك الآن، الآن، الآن أكثر
أظن أنه لا مناص سوى أن تسكن هذه الكلمات قلبك فور سماعها، وتطلب من قائلها إعادتها على مسامعك مرات ومرات، هذا ما حدث تماماُ مع موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب حينما سمع تلك الكمات من صديقه جورج جرداق، وطلب منه أن يكرر القصيدة وكان عبد الوهاب تخلى عن منافسة "ثومة" وصب اهتمامه على اللحن فتشاركا في خمسة أعمال وبدأ ينتقي لها كلمات أغانيها، لذا رأى عبد الوهاب تلك الكلمات تتلألأ في حنجرة "الست".. أظنه مسك عوده ودندن وسمع شدوها قبل أن تقف على المسرح وتغنيها.. فاقرأ وتخيل هل يمكن لأحد غيرها أن يغني:
وَالمسَاءُ الذِي تَهَادَى إِلينَا
ثُمَّ أصغَى وَالحُبُّ في مُقلَتينَا
لسُؤَالٍ عَنِ الهَوَى وَجَوَابٍ
وَحَدِيثٍ يَذُوبُ في شَفَتينَا
قَد أَطَالَ الوُقُوفَ حِينَ دَعَانِي
لِيَلُمَّ الأشواقَ عَن أَجفانِي
فَادن منّي وخُذ إِليكَ حَنَاني
ثُمُّ أَغمضْ عَينيكَ حَتَّى تَرَانيَ
وَليَكنُ لَيلُنا طًوِيلًا طَويلًا
فَكثيرُ اللقِاءِ كَانَ قَليلاَ
هذه ليلتي وهذا العود بث فيه من سحر داود
في كتابه "حكايات الأغاني" يروي فارس يواكيم: تفاصيل لقاء عبد الوهاب وجورج جرداق ويقول: «كانت القصيدة تبدأ بمطلع غير الذي عرفه المستمعون وهو: «هذه ليلتي وهذا العود بث فيه من سحر داود».
وذكرت بعض الصحف آنذاك أن أم كلثوم طالبت بتغيير المطلع، فاتصل عبد الوهاب بجرداق ليأت إلى القاهرة وتم اللقاء بينه وبين "ثومة" وأجرى التعديل الذي خرجت به الأغنية.
وفي مقال له بعنوان: " هذه ليلتي" يروي المؤرخ الفني محمود الزيباوي أجواء الحفلة الأولى لخروج هذه القصيدة للجماهير فكتب: «كانت الملايين من المحيط إلى الخليج على موعد مع أمّ كلثوم ليلة الخميس،وكان لموعد هذا العام عبير خاص بالنسبة للنيل والجبل الأخضر، وبالنسبة للأهرام وبعلبك، فقد استهلت أمّ كلثوم سنتها الغنائية بقصيدة للزميل اللبناني الشاعر جورج جرداق،عملاق من عمالقة الكلمة في لبنان،لحّنها محمد عبدالوهاب سيد النغم على ضفاف السمراء،وأدتها قيثارة السماء أمّ كلثوم، بدأت "هذه ليلتي" في الوصلة الثانية بين الوصلتين، وقف عبد الوهاب وراء الستار وألقى نظرة على القاعة، ومشت أمّ كلثوم على الكلمات مع اللحن، واطمأن عبد الوهاب فحيّاها وابتعد، وبينما الملايين تصفّق للحن اللقاء السادس بين عملاق الموسيقى وأستاذة الطرب،كان عملاق الموسيقى ينزوي في سيارته ويقول للسائق: " شغل الراديو،وامشي على مهلك".
يَا حَبيبِي طَابَ الهوَى مَا علينَا
لَو حَمَلنَا الأَيَّامَ في راحَتَيْنَا
صُدفَةٌ أَهدَتِ الُوجُودَ إِلَينَا
وَأَتاحَت لَقاءَنَا فالتَقينَا
فِي بِحارٍ تَئنُّ فيهَا الرّياَحُ
ضَاعَ فِيَها المِجدَافُ والملاَّحُ
كَم أَذلَّ الفِرَاقَ مِنَّا لقاءُ
كُلُّ ليلٍ إِذَا التقينَا صَباحُ
يَا حَبِيبًا قَد طَالَ فِيِه
حلوة الكلمات.. بل عظيمة.. «هذه ليلتي» كل منا يتمنى هذا اللقاء وتلك الليلة.. كل منا تجول بداخله تلك الكلمات والتفاصيل التي كتبها جرداق عن هذا اللقاء وتلك الليلة.. كلنا ننتظر تلك اللحظة.. لحظة البهجة تلك التي لا تتكرر فبعد حين يُبدل الحب داره.. انتظر جرداق الوحي كثيرا ليكتب تلك الكلمات، لم يستطع عبد الوهاب تأجيل تلحينها لتغنيها أم كلثوم فامتنع عن إجراء عملية كانت مقررة في عينه وطلب من الأطباء المشرفين على علاجه تأجيل إجراء العملية، هذا هو الأستاذ حينما يتذوق وتلك هي ثومة تقول: «الكلام الحلو لا وطن له».
حبيبي
وأنت خمري وكأسي
ومنى خاطري
وبهجة أنسي فيك صمتي
وفيك نطقي وهمسي
وغدي في هواك يسبق أمسي
هل في ليلتي
في ليلتي
خيال الندامى
والنواسي عانق الخياما
وتساقوا من خاطري
من خاطر الأحلام
وأحبو وأسكروا
وأسكروا الأيام
ربي من أين للزمان صباه
إن غدونا وصبحه ومساه
لن يرى الحب بعدنا
بعدنا
بعدنا من حداه
نحن ليل الهوى
ونحن ضحاه
ملء قلبي شوق
وملء كياني
هذه ليلتي
ليلتي فقف يا زماني