كانت المواجهات العسكرية ضد المماليك والثورات الشعبية التى قام بها أهل القاهرة أحداثاً فاصلة فى مسيرة الحملة الفرنسية فى مصر “1798 - 1801م”، لكن ذلك كله كان جانباً معروفاً وتقليدياً لدراسة هذه الفترة المعقدة من تاريخ مصر، على جانب آخر هناك بعيداً على طول ساحل النيل جنوباً فى بلاد الصعيد كانت المواجهات الأكبر التى أرقت مضجع الفرنسيين وكانت سبباً مباشرة فى فشل حملتهم تلك، لكنها لم تكن مواجهات العساكر والسلاح بل كانت حرب الجباية والأموال أو ببساطه المعركة التى خاضها الفرنسيين للسيطرة على إيرادات الضرائب المفروضة على الأراضى الزراعية.
شكّلت مجموعة مشايخ القرى والمباشرين الأقباط الذين احتكروا الإشراف على “جباية الضرائب” طوال العقود الأخيرة قبل مجيء الحملة الفرنسية عقبة كبيرة أمام الجانب الفرنسى فى السيطرة على موارد الأرض، من الضرائب والغلال، حيث قاموا بحركات شبه منظمة للحيلولة دون كشف أسرار دفاترهم وعملهم للفرنسيين حتى لا يفقدوا سلطتهم وأملاكهم، بل إن منهم من إستغل الموقف لتحقيق الثراء الفاحش، فكثيراً ما شّكل المشايخ عقبة كبيرة أمام وكلاء الفرنسيين فى تسوية حسابات القرى من الضرائب فكانوا يتحصلون عليها من الفلاحين ثم يرفضون تسليمها للجانب الفرنسى.
هذا ما دعى إحدى جنرالات فرنسا فى صعيد مصر “بوييه” أن يرسل إلى الجنرال ديزيه أحد المسئولين فى ماليية الحملة الفرنسية رسالة يلقى فيها الضوء على حوار دار بينه وبين بعض مشايخ القرى بناحية دلجا - إحدى القرى القديمة بمركز ديروط “أسيوط” - عندما سألهم عن السبب الذى يمنعهم من تقديم الضرائب التى تحصلوا عليها من الفلاحين، أجابوه بأن السبب هو "القدر" أو L’Ader كما نطقها الفرنسيين، وبعد مشقة فهم الجنرال بوييه أن هذة الكلمة معناها حسبما وصف بنفسه أنها “مصطلح يعنى ”أنهم لن يعطوا لنا المال ولا الغلال" الأمر الذى إضطره إلى سجنهم والمطالبة بمصادرة أملاكهم، غير أن ضغوطه لم تسفر عن نتيجة بل وجاءته التعليمات بالإفراج عنهم.
فكتب مرة أخرى إلى الجنرال ديزيه فى أسلوب ساخر: “إن تراخينا معهم سوف يظهر لأهالى القرى ضعفنا ... والجمهورية لن تحصد من القرى سوى ”القدر"!
المصدر:
- صفحة المؤرخون المصريون.
- د ناصر أحمد إبراهيم، الفرنسيون فى صعيد مصر “المواجهة المالية” 1798 - 1801م، رسالة دكتوراة منشورة بدار الكتب والوثائق القومية، الطبعة الثانية القاهرة 2012م، صـ 196. عن: Boyer a Desaix, Montfallout, II aout 1799.