بعد دخول الإسلام مصر حثَّ الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، المسلمين على كفالة اليتيم ورعايته، وورد ذلك في أحدايث كثيرها منها: "أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة"، وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى.
ثم جاء بعد ذلك العمل بنظام مؤسسي لرعاية الأيتام، ففى العصور الوسطى خاصة بمصر والشام زمن سلاطين المماليك، إشرافا كاملا من قبل الدولة على كفالة الأيتام، فكانت هناك وظيفة يدعى صاحبها "أمين الحكم" يختص برعاية شئون الأيتام عند القاضى، فهى وظيفة تدخل تحت ديوان قاضى القضاة أو قضاة المذاهب المختلفة؛ فلم تكن الدولة تطلق يد أحد بشكل كامل للتحكم فى مال الأيتام حتى ولو كان الوصى الشرعى عليهم من قبل أبيهم المتوفى، ويكون دور أمين الحكم الإشراف على رعاية الشئون المالية لهؤلاء الأيتام وتنظيم الإنفاق عليهم من تركة أبيهم إذا لم يكن لهم وصى، أو يحاسب الوصى على ما ينفقه من أموالهم.
أما إذا مات عائل الأبناء دون أن يسمى لهم وصى بشكل شرعى، كانت الوصاية تنتقل إلى الام مباشرة بصفتها أقدر على الحفاظ على أبنائها ورعايتهم، فإذا شك القاضى فى أهلية الأم لهذا الدور حينها يكون وظيفة أمين الحكم بإدارة تركة والدهم والإشراف على وصول النفقة منها إليهم بشكل شهرى.
تثبت مئات بل آلاف الوثائق ذلك - بما لا يدع مجالا للشك - منها مثلا ضمن وثائق الحرم القدسى الشريف الوثيقة رقم 613 بتاريخ 19 ذى القعدة 796هـ والتى تم فيها إسناد وصية أبناء لأمهم بحضور أحد أعوان نائب السلطنة بالقدس الشريف وأبرمت بإذن قاضى القدس الشافعى وموقع عليها من قبل 3 شهود، ووثيقة أخرى برقم 192 بتاريخ 5 محرم 790هـ تنص على أن أمين الحكم قام بتسليم أم وصية على طفلين يتيمين من مال أبيهما "فرض ولديها محمد وعلى اللذين فى حضانتها عن مدة أربعة شهور كوامل آخرهم شهر صفر من سنة تاريخه مائة درهم وسبعين درهما نصفها خمسة وثمانون درهما".
والمصادفة الجليلة أن وثيقة أخرى برقم 183 بتاريخ 4 رمضان من نفس العام تنص على أن الأم نفسها قبضت من أمين الحكم مبلغا وقدره 120 درهما "وذلك فرض ولديها محمد وعلى عن مدة شهرين كاملين آخرهما سلخ رمضان المعظم". وبحساب نصيب كل طفل منهما عن الشهر الواحد بالوثيقة الأولى يتضح أنه مبلغ 21.25 درهم بينما زاد نصيب الواحد منهم عن شهرى شعبان ورمضان إلى 30 درهم، بما يفيد بأن أمين الحكم قام بالتوسعة على هؤلاء الأيتام من أموال أبيهما بما يتطلبه هذا الشهر الجليل من التوسعة.
أما الأيتام الذين لم يكن لهم مورد مالى للإنفاق فقد كانت الدولة تخصص لهم نفقة شهرية من ريع ديوان الأوقاف، تؤكد ذلك وثيقة أخرى من وثائق القدس فى العصر المملوكى برقم 184 بتاريخ الثانى من رمضان 789هـ أن إحدى الأرامل قبضت من “أمين الحكم العزيز” الجابى على وقف المدرسة الصلاحية بالقدس من الدراهم الفضة معاملة الشام المحروس ثلاث مائة درهم وخمسة وسبعين درهما وذلك "ما هو فرض أولادها... وهم عمر وأبى بكر وسلما وسارة عن شهر رجب"، ومبلغ 375 درهم لأربعة أطفال فى شهر واحد هو بالتأكيد مبلغ كبير بمقاييس هذا الزمن، كما أنه من الطبيعى إختلاف نفقة هؤلاء الأيتام باختلاف ظروف وريع الوقف السنوى المخصص للإنفاق على اليتامى.
ونظم ذلك كله منذ عهد السلطان "الظاهر ركن الدين بيبرس" وبالتحديد سنة 662هـ، حيث أمر القضاة بألا ينفرد أحد من الأوصياء على اليتامى وحده بوصية خوفا من "أن يكبر اليتيم فلا يجد شيئا ولا تقوم له حجه على موجودة أو يموت الوصى فيذهب مال اليتيم فى ماله"، وأن يشرف على ذلك مجلس حسبى يتبع القضاة "وديوان المواريث الحشرية" يتكون من نواب للقاضى تسجل فيه أموال هؤلاء اليتامى ويشرفون على توزيعه عليهم بل ومحاسبة الوصى نفسه إذا أقدم على التعدى على درهم واحد من مال الأيتام.
المصادر:
- صفحة المؤرخون المصريون.
- أ.د على السيد على: دراسات حول مدينة بيت المقدس فى وثائق الحرم القدسى الشريف، دار الكتب والوثائق القومية القاهرة 2013م، صـ 204، 216 : 220.
- عن دكامل جميل العسلى: وثائق مقدسية تاريخية، عمان 1983م، الجزء 2 صـ 109.
- د محمد عيسى صالحية: وثائق الحرم القدسى الشريف المملوكية، حوليات كلية الأداب جامعة الكويت، الحولية السادسة 1405هـ / 1985م صـ 92 - 113 - 105 : 107.
- تقى الدين أحمد بن على المقريزى: السلوك لمعرفة دول الملوك، تحقيق د/محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية بيروت الطبعة الأولى 1997م، الجزء الثانى صـ 8.