لكل مهنة شيوخها، الذين أفنوا حياتهم في دروبها بحثا عن لقمة العيش، تعلموها بالفطرة وعاشوا أيام رواجها وتراجعها، تلك المهن ميراث الآباء والأجداد، قضوا فيها سنين العمر، وتربعوا على عرشها لسنوات. "البوابة" تبسط صفحاتها لترصد وتقدم لقرائها قصص وحكايات عن "شيوخ المهن".
«عم إسماعيل»: تشكيل النحاس أوشك على الانقراض والشباب لا يريد تعلمها
تعد صناعة النقش على النحاس وإعادة تشكيله واحدة من أقدم الصناعات على الإطلاق، حيث تمتد جذورها إلى الحضارة المصرية القديمة، فتلك الآثار والنقوش شاهدة على عبقرية النحات المصري، ودقته واتساع خيالة، تلك المهنة توارثها الأجيال إلى يومنا هذا.
ففي أحد أزقة شارع المعز لدين الله الفاطمي تجد العديد من الورش والمحال التي تبيع التحف النحاسية وتقوم بتشكيلها، إلا أنه في إحدى هذه الورش رجل يناهز السبعين عاما يعمل فيها منذ كان في السادسة من عمره، يمتلك مهارة فائقة في تشكيل النحاس وصناعة التماثيل والتحف التي لايقدرها إلا من يعرف قيمة هذه الصنعة.
وبالرغم من اندثار مهنة النقش على النحاس في الوقت الراهن، فإن عم إسماعيل بقي متمسكا بتراث عمره وصنعته، رافضا مجاراة الزمن بتكنولوجيا الحفر والنقش بالليزر، ليقدم من روحه نقوشا على صفحات النحاس وصورًا لتوت عنخ آمون وأم كلثوم وغيرها من التحف والانتيكات التي نفخ فيها من فنه وإبداعه، هذا الرجل الذي لم يدخل مدرسة قط؛ منذ السادسة اصطحبه خاله إلى الورشة ليعلمه تلك المهنة الصعبة وينقل ميراث تناقلته الأيام عبر آلاف السنين.
ويقول عم اسماعيل؛ إن المهنة تواجه خطر الانقراض بعدما عزف الشباب عن تعلمها، ففي السابق كان يبدأ الشباب في تعلم المهنة ويجتهدون في ذلك قدر المستطاع، لكن اليوم المهنة أصبحت تواجه خطرا كبيرا، فجميع صُناعها تجاوزوا الخمسين من عمرهم، ولا يوجد شباب بينهم، لأنها أصبحت لا يعتمد عليها في توفير دخل عادل في ظل هذه الظروف الصعبة علاوة على مشقة العمل التي يتكبدها الصنايعية.
«عم جيمى»: «بقالى ٣٠ عامًا على عربة الفول متأخرتش يوما»
في منطقة بين السرايات بجوار جامعة القاهرة عربة فول تعد من أبرز ماعلم المنطقة هناك، لما لها من شهرة واسعة بين الطلاب وموظفي الجامعة يقف عليها رجل جاوز الخمسين من العمر لم يتخلف على الحضور لهذا المكان منذ ثلاثة عقود فهو يحضر بشكل يومي عدا يوم الجمعة والإجازات الرسمية.
جمال على إسماعيل أو كما ينادونه "عم جيمى" يحضر إلى مكان اعتاد الوقوف به قبل شروق الشمس يضع أدواته ويقوم بتجهيزها قبل صلاة الفجر مباشرة ثم يذهب إلى إحدى المساجد القريبة ليصلي الفجر ويخرج ليباشر عمله، ويتوافد عليه الطلاب المقيمون بالمدينة الجامعية وموظفي الجامعة وسكان المنطقة لتناول وجبة الفطور الأساسية بنسبة لهم.
ويضيف "عم جيمى": أحدهم يكتفي بطبق من الفول وما معه من السلطة والباذنجان المخلل الذي أعده بطريقة خاصة لتكون تكلفته وثلاثة أرغفة من الخبز لتكون تكلفة ١٠ جنيهات فقط، أو يطلب أطباقا إضافية من البطاطس أو الطعمية أو البيض المسلوق، كلٍ حسب رغبته وميزانيته. و يتميز "عم جيمى" بأسعاره المنخفضة فهو لا يزيد السعر على زبائنه الا للضرورة، بالمقارنة بعربات الفول الأخرى في المنطقة هو الأرخص بنسبة كبيرة تصل لـ٥٠٪، وبسؤاله عن السبب؛ قال إنه يلتزم مع زبائنه بميثاق أخلاقي، فهو لا يفضل جني كثير من الأموال على حساب الناس، ويكتفي بهامش ربح قليل جدا، حتى أنه لم يزد ثمن البيضة المسلوقة عن ثلاثة جنيهات، رغم وصول سعرها لأكثر من ذلك، وتكلفة تجهيزها التي تصل لأكثر من نصف جنيه، إلا أنه لا يزيد سعرها رأفة بزبائنه والطلاب المغتربين الذين يأتيون إليه خصيصا. ويؤكد "عم جيمى"، لـ"البوابة" أنه لا يستطيع التخلف عن الحضور، مهما كانت الظروف، فلا يذكر يوما واحدا لم يحضر فيه إلى هذا المكان، لأن الجميع يكون في انتظاره.
«عم محمد»: ٦٠ عامًا فى تصليح الراديوهات فى محل والدى
بمجرد أن تأخذ جولة بجوار ميدان الساعة بمدينة دمنهور عاصمة محافظة البحيرة ستجذب عينيك لافتة إحدى المحلات القديمة، كُتِب عليها "راديو مجدي"، صممت بشكل تراثي وقديم، لمحل يقارب عمره المائة عام.
درجتان من السلالم المتهالكة تصلك لرجل يجلس في هدوء، رسم الزمان خطوطا وتجاعيد في كل مكان من وجهه، إلا أنه لم يستطيع أن يمحي تلك الابتسامة الهادئة، في هذا الوجه المشرق، خلف نظارة كبيرة تستتر عينيه الزرقاوين التي أرهقها الدهر، فاستعانت بعدسات لتعينها على هذه المهنة غاية الدقة.
عم محمد عبدالعزيز أوشك عقده الثامن على الاكتمال، إلا أنه مازال يعمل في إصلاح الراديو والأجهزة الكهربائية الدقيقة، وقال إنه ورث المهنة والمحل عن والده وأفنى عمره بها لمدة ٦٠ عامًا.
عم محمد أحد أبطال حرب أكتوبر المجيدة شارك في حرب الاستنزاف وشارك في تحرير الأرض، فعندما يحكي عن تلك الذكريات تغلب الدموع عينه فخرا واعتزاز بتاريخه العسكري الذي شهد أيام الشباب والقوة والكفاح من أجل تحرير الوطن.
جالسا وسط كومة من الأجهزة الكهربائية الدقيقة والراديوهات من مختلف الماركات العالمية، ومن مختلف الأنواع، منها ما هو أثري ومنها ما هو حديث، بيد علمها الزمان وثقلها خبرة السنوات، بمعدات وأدوات بسيطة يقوم ببراعة بتصليح كافة أنواع الراديوهات من أقدمها لأحدثها مهما اختلف النوع واختلفت الأعطال فقد كون خبرة تجعله يعرف كل الاخطاء وكيف يمكن إصلاحها. ورغم تقدم عم محمد في السن وتراجع قوته بفعل الزمان إلا أنه حريص على الحضور لمحل والده يوميا.