"أصوات رقبائك! قد رفعوا أصواتهم وهم يهتفون جميعا لأنهم يرون عيانا الرب راجعا إلى صهيون". (أش ٥٢ / ٨).. قبل أن يبدأ المسيح خدمته العلنية، وقبل أن تتم على يديه آيات ومعجزات؛ بل قبل أن يعرف يوحنا شيئًا عن صليب وموت وقيامة الرب، يعلن أقوى شهادة عرفتها البشرية عن يسوع المسيح "أنا رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله".
يرون عيانا
عرف وشهد يوحنا المعمدان، أن يسوع هو المسيح، عرفه بموهبة تفوق العقل والحواس، موهبة باطنية قلبية؛ مغروسة في صميم طبيعة الإنسان. يوجهها الروح القدس ويستخدمها في كشف أسرار الله والتعرف عليه "فلنا كشفه الله بالروح، لأن الروح يفحص عن كل شيء حتى عن أعماق الله ". ١ كو ٢ / ١٠
وعندما يحل الروح القدس، وينسكب في ذهن إنسان وينيره، كما استنار ذهن يوحنا، تعمل في الحال هذه الموهبة الفائقة في طبيعة الإنسان، فينفتح العقل على أسرار الله وعلى المسيح الذي هو الوسيط بين الله والناس، ومخلص البشرية ومجددها.
إن ما أعلنه المعمدان وما نقرأه في انجيل يوحنا الإصحاح الأول، لهو أكبر شاهد على انفتاح الذهن واستنارته: "هوذا حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم". يو ١ / ٢٩، لقد رأى مستقبل الخلاص وكان على يقين به، في حضرة الروح القدس وبواسطته.
يوم عماد الرب، يوم انفتحت البصيرة الإنسانية، دخلت البشرية خبرة الثقة واليقين في خلاص الله للعالم؛ سر الخلاص المكتوم، لتتقابل وجهًا لوجه - عينًا لعين "يرون عيانا" كما يقول إشعياء النبي – مع الله الذي "ظهر في الجسد".
حقًا، إن هذه الخبرة هي أثمن ذخيرة مقدسة نالتها الكنيسة، بحلول الروح القدس على المسيح. وأعطت سر العماد أهميته الفائقة، كباب للدخول في سر الله وسر الفداء. حيث رأت خلاصها رؤيا اليقين حتى قبل أن يبدأ أو يتم.
فقط بتدبر الله
صورة مبدعة يرسمها يوحنا البشير، عن بدء خدمة المعمدان وظهور المسيَّا تحمل هذه الصورة في الواقع أسراراً عميقة. فمعرفة المسيح بالفعل لا تتم إلا بواسطة الروح القدس، هذا الذي لم يره نازلاً من السماء غير يوحنا المعمدان. رؤية خاصة، واستنارة لإدراك مالا يدرك: "وأنا لم أكن أعرفه... ولكن الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه، فهذا هو ...".
سر آخر يعلن لنا
سر آخر يعلن لنا في هذا العيد، إن ظهور المسيح في ذاته يستحيل أن يتم بالاجتهاد أو الترقُّب، إنما يتم فقط بتدبير الله. سمع يوحنا المعمدان عن المسيّا كثيرًا، ولكنه لم يكن يعرفه. يقول أحد الآباء الروحيين:
لم تسعفه تقشفاته الشديدة أو المعرفة الشخصية والقراءة للتعرُّف على ابن الله من بين الناس، ولكنها مهدت لذلك تمهيداً مكيناً! لقد حاول كثيراً وبطرق وجهود ذاتية عديدة أن يختزل الزمن ليتعرَّف على المسيَّا، الذي من أجله وُلِدَ وأخذ رسالة ليعلنه ويعد الطريق أمامه، ولكن كان الصوت يدعوه للتريث حتى يبلغ الزمن ساعة الصفر ليبدأ ملكوت الله.
عاش يوحنا حيرة كبيرة، كيف يتعرَّف على المسيَّا الذي سيكرز به ويُظهِره لإسرائيل؟. سمع صوت الله يرن في أُذنيه: فكل مَنْ يأتي إليك عمِّده، ولكن الذي ترى الروح نازلاً ومستقرًا عليه في وقت العماد، فهذا هو الذي سيعمِّد بالروح القدس.
"وأنا لم أكن أعرفه، ولكني ما جئت أعمد في الماء إلا لكي يظهر أمره لإسرائيل. وشهد يوحنا قال: رأيت الروح ينزل من السماء كأنه حمامة فيستقر عليه. وأنا لم أكن أعرفه، ولكن الذي أرسلني أعمد في الماء هو قال لي: إن الذي ترى الروح ينزل فيستقر عليه، هو ذاك الذي يعمد في الروح القدس ". (يو ١: ٣١ – ٣٣).
من الآن ترون السماء مفتوحة
انفتحت السماء أمام المعمدان، باستثناء خاص تجاوز كل استثناءات وخبرات الماضي. ثم سمع صوت الأب، ورأى الروح القدس نازلاً، فاستنار عقله وانفتح قلبه. فصار هذا كله لنا ميراثًا دائم يضمنه لنا المسيح بوعده وعهده: "من الآن ترون السماء مفتوحة" (يو ١: ٥١) ويتحقق الوعد مع استفانوس الشهيد ونقرأ في سفر أعمال الرسل "ها إني أرى السموات متفتحة، وابن الإنسان قائما عن يمين الله" (أع ٧: ٥٦) وما كل هذه الإمتيازات والاستثناءات الفائقة إلا لكي نعاين ونرى ونشهد نحن أيضًا: "أنا رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله".