سَنَة الرب المقبولة
الدكتور القس أندريه زكي
رئيس الطائفة الإنجيلية بمصر
كل عام وأنتم بخير، ها هو عامٌ يمضي، وعام يأتي، في رحلة حياتنا. نودع عامًا بكل ما حدث فيه من أفراح وأتراح، ونستقبل آخرَ بآمال وتمنيات وطموحات، وربما بعض المخاوف.
أتوقف كثيرًا عند واحدٍ من المواقف عن السيد المسيح يرويه إنجيل لوقا 4: 16- 21: "وَجَاءَ إِلَى النَّاصِرَةِ حَيْثُ كَانَ قَدْ تَرَبَّى. وَدَخَلَ الْمَجْمَعَ حَسَبَ عَادَتِهِ يَوْمَ السَّبْتِ وَقَامَ لِيَقْرَأَ، فَدُفِعَ إِلَيْهِ سِفْرُ إِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ. وَلَمَّا فَتَحَ السِّفْرَ وَجَدَ الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ مَكْتُوبًا فِيهِ: «رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ، وَأَكْرِزَ بِسَنَةِ الرَّبِّ الْمَقْبُولَةِ». ثُمَّ طَوَى السِّفْرَ وَسَلَّمَهُ إِلَى الْخَادِمِ، وَجَلَسَ. وَجَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْمَجْمَعِ كَانَتْ عُيُونُهُمْ شَاخِصَةً إِلَيْهِ. فَابْتَدَأَ يَقُولُ لَهُمْ: «إِنَّهُ الْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هذَا الْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ»".
ويرِد هذا المقطع الكتابي الذي قرأه السيد المسيح في العهد القديم، سفر إشعياء النبي 61: 1- 2: "رُوحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي الْقَلْبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بِالْعِتْقِ، وَلِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ. لأُنَادِيَ بِسَنَةٍ مَقْبُولَةٍ لِلرَّبِّ...".
الفارق الزمني بين النصين قد يصل إلى سبعمائة سنة. ويكتب إشعياء النبي كلماته هذه في ظروف تاريخية صعبة من تاريخ مملكتي إسرائيل ويهوذا؛ فكانت أورشليم تحت حصار الإمبراطورية الأشورية، مما يعني حالة حرب وظروف سياسية واقتصادية واجتماعية ودينية تبعث على الإحباط واليأس.
ويقرأ السيد المسيح نبوة إشعياء هنا في ظروف صعبة؛ من احتلال وضيق اقتصادي وتعصب ديني واستقطاب وقلاقل وعدم استقرار.
وفي كل هذه الظروف يتحدث إشعياء النبي عن "سنة مقبولة للرب"، ويؤكد السيد المسيح بعد قراءته للنص على سنة الرب المقبولة. فما هي سنة الرب المقبولة؟
مصطلح "سنة الرب المقبولة" يرد في العهد القديم تعبيرًا عن وصية موازية لوصية السبت؛ فالسبت في الفكر اليهودي هو اليوم السابع وهو يوم الراحة، وكذلك هذه السنة هي السنة السابعة وهي سنة راحة. وقد وردت هذه الوصية في سفر اللاويين 25: 1- 7. ومفادها أن الأرض تستريح في السنة السابعة بعد زراعة ست سنوات. وكان لهذه الوصية ثلاثة أهداف: اجتماعي، واقتصادي، وديني.
الهدف الاجتماعي كان الاهتمام بالفقير والمسكين؛ إذ كانت السنة السابعة سنة راحة لأصحاب الأراضي والمزارعين؛ لا يبذرون فيها ولا يزرعون ولا يحصدون، بل كانوا يتركون محاصيل الأرض الذاتية للفقير والمسكين والغريب ليقتات منها. أما الهدف الاقتصادي فقد كان إراحة الأرض، تلك الأرض التي أعطت وأنتجت ست سنوات متوالية، كي تستعيد هذه الأرضُ قوتها وعافيتها فتجود في السنين التالية بثمر أكثر وأكبر. أما الهدف الديني فكان إشعار الشعب كله أن الأرض هي ملك للرب، وأن مصدر رزقهم من عنده، كما أنهم هم أيضًا له، ويجب أن يضعوا ثقتهم فيه وهو يعتني بهم.
ووفقًا لما ورد في إنجيل لوقا كانت هذه أول عظة للسيد المسيح، وهي بمثابة انطلاق لخدمته، وهو لم يكن يقصد الحديث عن السنة السابعة ولا السبت ولا الراحة، بل كان يؤكد على حاجتنا جميعًا إلى بداية جديدة، وما أحوجنا جميعًا إلى مثل هذه البداية الجديدة!
إن ما يمر به العالم كله من ظروف غير مستقرة، ربما يدفع البعض إلى الخوف من المجهول والشعور بعدم الأمان، لكن لتكن بداية العام الجديد فرصةً لمواجهة هذه المشاعر بالأمل والرجاء داخل قلوبنا حتى نستطيع أن نعين من يكاد الإحباط واليأس والخوف أن يهزمهم. فرصة لمراجعة الذات ومحاولة إعادة قراءتها وفهمها. فرصة لإعادة الطاقة للعمل والإنتاج والإبداع.
أصلِّي دائمًا من أجل بلادي الحبيبة، أن يمتلئ مواطنوها بروح الأمل والرجاء والإبداع والطاقة، وأن يحفظهم الله من كل خوف أو إحباط أو يأس، أصلي لأجل القيادات، لكي يمنحهم الله القدرة والحكمة في قيادة بلادنا في ظل ظروف عالمية غير مستقرة، إلى بر الأمان والازدهار والتقدم.