الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

دهشة الوجود فى "جوارى بلا قيود"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

 لقاء درامى متفرد، ربما طغت فيه المتعة الذهنية على المتعة الفنية، وعلى الرغم من ذلك، تحققت رسالة الدراما الإنسانية والفكرية والجمالية، الجادة، حينما نجحت فى تجسيد، الوجه المشرق، والمستنير، لعالم الصحافة، والأدب، والحب، والحياة فى مسلسل من أهم كلاسيكيات الدراما التليفزيونية المصرية، هو "جوارى بلا قيود"، للكاتبة المتمردة "منى نورالدين"، والإخراج "حسن سيف الدين"، والتصوير؛ "عبدالله مصطفى"، "محمد ثابت"، "سعد عبدالجواد"، "محمود حامد"، "محمود الأشقر"، والإضاءة "بدرتاس"، والديكورات "قوت القلوب"، والموسيقا "أحمد الشابورى"، والبطولة للعظيم "كرم مطاوع"، والفنانة "بوسى"، وبمشاركة المبدعين "كمال الشناوى"، "سهير المرشدى"، "حسن مصطفى"، "زوزو نبيل".
    تعبر لغة الحوار؛ الأنيقة، المهذبة، وإحكام حركة الكاميرا، وحساسية الإضاءة، وتميز الموسيقا فى كل لقطة درامية، عن ثقافة، وفلسفة، وعمق رؤية الكاتبة، الإبداعية، الواعية، تجاه ذاتها، والناس، والأشياء، والكون، والحياة، وعلى الرغم من قدرة الكلمات، فائقة الرهافة على إدهاشك، بل اختطافك بقوة، من أول لحظة، إلى آفاق بعيدة، مثالية، مبهرة، ربما تبحث عنها، فى واقعك المُعْتِم، والرَّاكِد، والمُهْلَك، فلا تجدها ! إلا أنك تشعر أن هذه الروح الهادئة، والراقية، تَسكُنك فى مكان ما بداخلك؛ مضئ، ومُزهِر، ربما وجوده المتفتح هذا، هو ما يمنحك، إرادة الحياة.
    يَسْطَع من تفاصيل الشخصيات الدرامية الثرية، وزخم الأحداث المتتابعة، وبلاغة الحوار المتبادل، بريق، مصدره نبل، وشموخ، أفكار المؤلفة، وبراءة مشاعرها، وقسوة أوجاعها، ورحابة تطلعاتها، وقد تألقت الشاشة الصغيرة، وكل الممثلون، فى تجسيدها بدقة، وبراعة؛ فحينما يتبادل الكاتب الصحفى المرموق "عزيز هدايت"، الحوار المكتوب على صفحات الجرائد، مع الكاتبة الجميلة، قوية الشخصية، رُغم شفافية الروح "جهاد رشيد"، يتلاقى سيف مهاجم النساء الباتر، الذى أنهكته صدمات عاطفية عنيفة، مع سيف مهاجمة الرجال الساحقة، التى أرهقتها "مثله" صدمات عاطفية مؤلمة.
    يحتد صراع الحوار الدرامى بينهما فى الواقع، وعلى صفحات الجرائد اليومية، وعلى الرغم من شراسة المعركة الفكرية والأدبية الدائرة، إلا أنه يبدو كمٌؤلًّف موسيقى ساحر، فى غاية الانسجام،  والعذوبة؛ فتكتب "جهاد رشيد" بعد صدفة لقائهما الأول، فى مستهل مقال لها: "كان هناك نوعان من الحوار؛ حوار ينطق به، وحوار آخر تهمس به عيناه، واعترتنى حيرة غامرة، ككلماتٍ فى حاجة إلى هجوم مضاد، أما عيناه فهما فى حاجة إلى احتواء! إنه مثل نهر يتعانق مع السحاب، ويستحلفه أن يمطر حبًا؛ لتستقبله الأرض الجدباء؛ فترتوى ! ولم تسعفنى كلماتى، وقادنى كيانى إلى عينيه".
    خاضت "جهاد" تجربتين فاشلتين فى الزواج؛ مما يجعلها دومًا كوتر مشدود فى مواجهة ملاطفة أية رجل، يحاول الاقتراب منها ! تتصور أن الأدب مجرد وجهة نظر، بينما يرى "عزيز" أن الأدب قيمة فى ذاته، ينبغى أن تحمل رسالة رفيعة إلى العالم؛ فيكتب فى وصف لقائهما الأول: "أعتذر، فقد خانتنى كلماتى، أمام طوفان من المشاعر، لا أعرف مصدرها، ولم أعد أدرى ! لقد تداخلت أجهزة الإرسال والاستقبال عندى، أمام نظرتكِ الأولى تجاهى ! كانت مزيجًا من الإعجاب، والتحدى، مزيجًا من العدوان، والمتعة ! لم أستطع حيالهما شيئًا؛ فجاء الهجوم عنيفًا، مركزًا، يتحدى أيامى ! لقد كنت أخشى ذلك اليوم، عفوًا! بل كنت أتسابق عدوًا، سعيًا إليه".
    يُحرِّضها متعمدًا على الكتابة بعد انقطاع، فيكتب: "عندما تتحول المرأة إلى رجل أعمال ! كنت أتمنى أن أرى خصلات شعرك، بدلًا من اعتقالها فى قمة رأسك، كنت أتمنى أن أرى عينيك، بدلًا من إخفائهما تحت نظارة سوداء، مسحت بريقهما، كنت أتمنى أن أسمع صوتك هامسًا، وليس مختنقًا، منفعلًا، يداك ترتعدان، انفعالًا، تعبيرات وجهك، تنبعث منها أبخرة التحدى، والانفعال، حقيقةً لم أرى أمامى أنثى، بل رأيت رجل أعمال ! العنف سيدتى من صفاتك، التحدى سيدتى من خصائصك، عودى سيدتى إلى الطبيعة، التى منحك إياها الخالق الأعظم، عودى إلى تسامحك، عودى إلى ابتسامتك، عودى إلى أنوثتك، بدلًا من أن تتقمصى شخصية رجل أعمال".
    يُجرَح كبرياء "جهاد"؛ فتُقرِّر كسر غروره، وتكتب: "سيدى الرجل: آن الأوان كى تعى حقيقة أمرك، آن الأوان أن تتنازل عن عرش كبرياء، صنعته بوهم من نفسك، آن الأوان أن تتعلم من جديد، كيف تعطى ؟ أن تتعلم من جديد، كيف تكُف عن الأخذ ؟ ألا تقتحم معبد امرأة، قبل أن تعرف طقوس هذا المعبد !..."؛ فيقرأ مقالها الكاتب الشهير وزوجها السابق "رؤوف"، فيشعر أن ثمة مشاعر حب متوقعة، تتولد بين صديقه "عزيز" وبينها؛ فتعتصره الغيرة، التى تذكره برأيها فى كتابات "عزيز"، الذى لم تكن تراه: "فهو يكتب فى السياسة، كمحلل درجة أولى، ويكتب فى الحب، كأنه يعزف سيفونية عظيمة". 
    ينشُر "عزيز" مقالها كاملًا فى الجريدة، التى يرأس تحريرها؛ رغم هجومه الشرس عليه، ويعلق أثناء حوار مع صديقهما المشترك "نعيم": "المهم أنها استعادت قلمها مرة أخرى، صحيح أنها تهاجمنى بوحشية، لكن الأهم أن قلمها استجاب ! أنت لم تجرب إحساس الكاتب، حينما يتوقف قلمه، ويعانده؛ لتعرضه لأزمة نفسية طاحنة، حينها يشعر أن قلمه، الأقرب له، أخرس، عاجز، يرفض الكتابة، والنطق، والحركة ! لقد مررت بهذا الإحساس من قبل، كجندى أعزل، بدون سلاح، يشعر بالغربة عن أوراقه!".
    ختامًا، يلاحقنى ذلك السؤال الأهم، والأخطر: "هل تراجع مستوى الدراما السينمائية والتليفزيونية بشكل عام إلى حد مؤسف ومخجل حقًا ! أم أنه مع مرور السنوات، حدث شرخ عميق فى جدار الإنسان؛ فتدنى مستوى الثقافة، وتلاشى نقاء المعنى، وغاب مفهوم القيمة؛ ومن ثم انتحرت أفكار، وقيم، ومشاعر، الحب، والصدق، والبراءة من حياتنا، بل من عالمنا كله؛ الداخلى، والخارجى؟!