"كلنا فاسدون لا استثني منكم أحدًا".. عبارة قالها الفنان الكبير أحمد زكي، في أحد أفلامه، التي عرضت في ثمانينيات القرن الماضي، أي منذ قرابة نصف القرن من الزمن، ومن هنا تأتي عبقرية تلك العبارة، التي أوجزت، مبكرًا، وصف الفساد في بضع كلمات دقيقة، ومركزة.
عبارة زكي تعني أن الفساد قديم قدم الحياة، وله مظاهره في كل مكان، وزمان، وتتشابه أدواته، قديمًا، وحديثًا، أي على مر الأجيال، وهي الرشاوى، التي تأتي في صورة نقدية كالمال، أو عينية كالهدايا.
وفي هذا نجد أن الفساد واحد في كل عصر، ولم يكن يومًا مقصورًا علي جيل بعينه، فكم من مواطن دفع رشوة لموظف، أو مسئول، لتخليص أوراقه، أو تيسير مصلحة له، من دون وجه حق.
والفساد، كذلك، لا يعرف مكانًا بعينه، فتجده في كل الأماكن، ولكنه قد يكثر في بعضها، عن البعض الآخر، ولكن أكثر مكان اشتهر، على مر التاريخ، في مصر بالفساد، هو المصالح الحكومية، التي ألقت الدراما، بمختلف أنواعها، سواء سينما، أو تليفزيون، أو مسرح، الضوء عليها، في أعمال عديدة، صورت مشاهدها الإكراميات، والهدايا، التي يدفع بها المواطن، وهو المسئول الاول عنها، للموظف، "من تحت الترابيزة"، بعيدًا عن عين الدولة، والقانون.
وللفساد، أيضًا، عدة وجوه أخرى، غير الوجه التقليدي الحكومي، منها عبث المواطن بالمقاعد، والاركان، في وسائل المواصلات، كالقطارات، أو حافلات النقل العام، فتجده قد يكتب عليها، أو يلقى فيها ببقاياه، وقد يتطور الأمر للتخريب، بتحطيم المقاعد، لو وقعت مشاجرة، غير مُبالٍ بالأضرار الجسيمة التي تلحق بهيكل وسيلة النقل ومحتوياتها، وبالتالي بغيره من مرتاديها المسالمين، المحافظين، الواعين بقيمة المرافق العامة، ولا ذنب لهم، ومتجاهلًا باستفزاز ماسوف تتكبده الدولة - التي أنفقت أموالًا طائلة، لإعادة هيكلة وزارة النقل والمواصلات، ومرافقها - كذلك، من تكاليف باهظة، للإصلاح، والترميم، والتجميل، بسبب سوء سلوكه، وهذا النوع من الفساد يندرج تحت اسم "الفساد السلوكي".
وجه آخر من وجوه الفساد تجده في المرور، فكم من مواطن دخل وحدة المرور، لتحرير، أو تجديد تراخيص سيارته، وتحايل على نظام المكان، وقوانينه، بالرشوة النقدية، ومهما كانت قيمته، وذلك لمجرد التخلص من الحر، والزحام، وإنهاء إجراءاته سريعًا، من دون الالتزام بالصف، ولو على حساب آخرين أتوا قبله بساعات، ولكنهم آثروا الانضباط، بالالتزام بالنظام، واحترام القانون.
وفي المحليات حدِّث ولا حرج، الفساد على كل شكل، ولون، سواء رشاوٍ، أو مخالفات بناء، أو تعديّات على أراضي الدولة، أو الاستيلاء علي ممتلكات الغير، ما سبب العديد، والعديد من الكوارث، والأزمات، التي وصلت إلى قضايا رأي عام، في أحيان كثيرة.
تلك الأذرع الأخطبوطية للمحليات، هي أحد أهم أخطر وجوه الفساد في مصر، لأنها تكبد الدولة، والمواطن، ملايين الجنيهات، غير الأضرار النفسية التي تقع على المجتمع ككل، بسبب الصورة الشائهة لأحد أهم التنظيمات الإدارية في الدولة، وانعدام الثقة في موظفيه، الذين باتوا مضربًا للفساد.!
ومن المحليات إلى الأسواق، سنرى وجهًا آخر من الفساد، متمثلًا في الجشع، والاحتكار، بأساليب رخيصة، بلا وازع من ضمير، أو دين، فتجد أحد التجار الجشعين يلجأ لحيلة سامة لتحقيق أرباح خيالية، إذ ينشر شائعة عن غلاء السلعة، التي يتاجر فيها، ويروج لها بين الناس، ثم يبدأ في تخزين السلعة لفترة ما، ثم يطرحها بالسعر الجديد الذي يحدده هو، مستغلًا نقصها في الأسواق، فيجني أموالًا طائلة من الفرق السعري، على حساب المواطن الكادح، الذي لايجد أمامه سوى الحكومة، ليصب عليها جام غضبه، معتقدًا أنهأ سبب الغلاء!!
أما أخطر أنواع الفساد علي الإطلاق، فهو فساد الإعلام، والصحافة، لأنهما المسؤولان عن تشكيل وعي المواطن، وثقافته، ولو نظرنا للسنوات الأخيرة، فسنجد ظاهرة، غاية في الخطورة، تنتهجها كل المواقع، والبوابات الإلكترونية المحليّة، بلا استثناء، تسمى "التريند"، وهي صناعة العناوين السطحية المُجهّلة، لجذب أكبر عدد من المتصفحين، أو القُرّاء، وغالبًا مايكون المحتوى هابطًا، لا يستحق القراءة، أو يعمد إلى الإثارة ببعض الخيال، وافتعال بعض الأحداث، ليحصد بها أرباحًا قياسية، ولو على حساب المواطن، وبلا أدنى مراعاة لتأثير الحدث، أو المحتوي علي وعيه، وثقافته..!
ولم يقتصر الفساد على كل ماسبق، بل توغل، كذلك، في أغلب المؤسسات الفنية، والثقافية، التي هبطت بإنتاجها، وبعقلية المواطن..!
كل هذا الفساد المستشري في مفاصل الدولة، المسئول الأول عنه هو المواطن.
فماذا لو امتنع المواطن عن تخريب المرافق العامة للدولة، وحافظ على نظافتها، ورونقها، لتعيش طويلًا، له، وأولاده، ويحمي مرفقًا مهمًا، كالنقل العام، من الخسائر؟!
وماذا لو احترم المواطن القانون، والنظام، في المرور؟!
وماذا لو كشف المواطن عن كل موظف فاسد في للمحليات؟!
وماذا لو قاطع المواطن سلع التاجر الجشع، حتى لايجرؤ علي استغلاله، بزيادة سعرها؟!
وماذا لو قرر المواطن مقاطعة صانعي المحتوي الرديئ إعلاميًّا، وفنيًّ، وثقافيًّا؟!
بالتأكيد.. لو فعل المواطن كل هذا، فسوف يساعد الدولة على استئصال شأفة الفساد، واقتلاعه من جذوره، لتعود لها هيبتها، ويرتدع كل من تسوِّل له نفسه أن يكون فوق القانون، وغيره من الناس.
وقد وصلت كل أنواع الفساد إلى مسامع القيادة السياسية، حتى إن الرئيس السيسي، لم يخلُ له خطاب من التشديد دومًا على ضرورة محاربة كل أوجه الفساد، وطالب، على الأخص، الإعلاميين، والصحافيين، وصناع الدراما، بسرعة صناعة محتوي يليق بالدولة، ويخاطب عقل المواطن، وحتى البسيط، لدرء الفساد عن وجه مصر، ولتتمكن الدولة من مواصلة برنامجها الصعب للإصلاح الاقتصادي، في أسرع وقت، ورفع المعاناة عن المواطن، لأن استمرار هذا الفساد، سيعرقل، بلا شك، المسيرة الناجحة للإصلاح، والتنمية، والتطوير، والتعمير، والبناء.
وهناك حلول كثيرة، تقوم بها الدولة، للقضاء على الفساد، كالتحول للنظام الرقمي، والشباك الواحد في المرور، وحملات الرقابة الإدارية على الفاسدين في كل مكان، وتعديل قوانين لسد ثغرات الخروج عليها، لكن الأهم، قبل كل تلك الحلول، هو الراهن على وعي المواطن، وقوة القانون.