الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

البوابة القبطية

الباحث إبراهيم ناجي يكتب.. البابا بنيدكتوس السادس عشر وصورة مغايرة عن الكنيسة الكاثوليكية التقليدية

البابا بنيدكتوس السادس
البابا بنيدكتوس السادس عشر
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

 

تودع الكنيسة الكاثوليكية حبرها الاعظم الفخري الالماني بنيدكتوس السادس عشر –جوزيف راتزينجر- البابا رقم 265 في تعداد باباوات كرسي القديس بطرس الرسول بروما، الرجل والخادم الذي صنع تاريخاً مغايراً للكنيسة الرومانية التقليدية مع نهاية القرن العشرين بأعتباره عميد مجمع العقيدة والايمان منذ ثمانينات القرن العشرين كخادم للايمان برفقة الرجل القوي يوحنا بولس الثاني، وبأعتباره اول بابا للكنيسة في القرن الحادي والعشرين. 

هذا بالاضافة لكونه اكبر بابا يتم انتخابه عن عمر 78 عاماً في العام 2005 منذ البابا كلمنت الثاني عشر عام 1730، وهو أيضًا من أطول الكرادلة في منصبهم بعد البابا بندكت الثالث عشر عام 1724؛ وهو البابا الألماني التاسع، وكان آخر بابا ألماني قبله هو أدريان السادس سنة 1522؛ أما آخر بابا سبقه تسمى باسم بندكت هو بندكت الخامس عشر، الذي انتخب خلال الحرب العالمية الأولى عام 1914.غير ان تاريخ بنيدكتوس السادس عشر الحقيقي الحقيقي الذي سيبقى محفوراً في تاريخ الكنيسة المعاصرة هو كونه اول بابا روماني يتقدم بأستقالته طواعية من قيادة الكنيسة منذ البابا غريغوري الثاني عشر الذي تقدم بأستقالته في 4 يوليو 1415. 

 

ولد جوزيف راتزنجر في 16 أبريل 1927 وهو ثالث وأصغر أنجال جوزيف راتزنجر الذي كان يعمل في سلك الشرطة وماريا راتزنجر. شقيق البابا الأكبر هو كاهن وعمل كقائدًا لجوقة جامعة ريجينسبورغ وشقيقته لم تتزوج أبدًا وعملت كمديرة لبيت البابا أثناء شغله منصب كاردينال حتى وفاتها عام 1991. عم البابا هو جورج راتزنجر أحد الساسة الألمان المشهورين. تلقى البابا دراسته الابتدائية في مدرسة “آسشاوا آم إن” التي أعيد تسميتها باسمه في عام 2009 تكريماً له. 

عندما بلغ الرابعة عشر من عمره عام 1941، انضم جوزيف راتزنجر إلى جيش “شباب هتلر” عنوة، وهو جيش غير نظامي أنشأه النظام النازي في ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية وفرض بالقانون على كل ألماني أن ينتسب إليه عندما يبلغ الرابعة عشر من عمره، لكنه كان عضوًا غير متحمس وكان يرفض حضور الاجتماعات، يعود هذا بشكل أساسي لأن والد البابا كان يقف ضد النظام النازي ويعتقد أنه يتعارض مع العقائد الكاثوليكية. 

 

التحق البابا بجيش المشاة الألماني عام 1943 لفترة قصيرة ثم عاد إلى منزل ذويه بسبب مرضه، إثر نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 ألقي القبض عليه كمحارب سابق لكن سرعان ما أطلق سراحه، وفي العام ذاته التحق بكلية القديس مايكل في جامعة لودفيج ماكسميليان في ميونخ حيث درس اللاهوت والفلسفة وتخرج منها عام 1951 ثم نال شهادة الدكتوراة من الجامعة نفسها بعد أطروحة أعدها عن الفكر اللاهوتي للقديس أغسطين. ثم أصبح عام 1958 محاضرًا في اللاهوت والفلسفة في كلية فريسنغ.

 

أصبح راتزينجر كاهنًا عام 1951، إلى جانب كونه محاضرًا في اللاهوت في عدد من الجامعات الأوروبية ونشر عدة مؤلفات حول اللاهوت والعقائد المسيحية والكاثوليكية؛ بالاضافة لحضوره اعمال المجمع الفاتيكاني الثاني في تلك المرحلة التأسيسية من حياته. خلال حبرية البابا بولس السادس (1963 إلى 1978) أصبح رئيس أساقفة ميونخ ثم كاردينالاً في 27 يونيو 1977؛ وبعدها بأربع سنوات في 25 نوفمبر 1981، عين البابا يوحنا بولس الثاني راتزينجر رئيسًا لمجمع العقيدة والإيمان في الفاتيكان؛ وبناءً على ذلك، استقال من منصبه في ميونيخ بداية عام 1982، ليتفرغ لعمله الجديد. عيّن في 5 أبريل 1993 أسقفًا فخريًا على مدينة فليتري الإيطالية، في عام 1997، طلب راتزينجر عندما بلغ السبعين من عمره، من البابا يوحنا بولس الثاني التقاعد المبكر والاستقالة من منصبه كرئيس لمجمع العقيدة الإيمان، وطلب أيضًا تعيينه كقيم على أرشيف الفاتيكان ومكتبة الفاتيكان، غير أن البابا رفض طلبه هذا. تم انتخابه عام 1998 كنائب لعميد مجمع الكرادلة اصبح عميداً للمجمع سنة 2002، وظل محتفظًا بمنصبه حتى انتخابه بابا. 

 

 كسابقه البابا يوحنا بولس الثاني، يعتبر البابا بندكت السادس عشر من المحافظين في الكنيسة الكاثوليكية في تعليمه اللاهوتي والاجتماعي، وقد كتب قبل انتخابه بابا، عددًا كبيرًا من المؤلفات في شرح العقائد الكاثوليكية والقيم المسيحية. خلال عمله كرئيس لمجمع العقيدة والإيمان، حافظ الكاردينال راتزنجر من نظرة الكنيسة الكاثوليكية الصارمة حيال المثلية الجنسية وتحديد النسل وشدد على أهمية الحوار بين الأديان، والابتعاد عن اللامبالاة الدينية، ولقب بالمدافع الشديد عن المذهب الكاثوليكي.

 

بعد وفاة القديس البابا يوحنا بولس الثاني، وبصفته عميداً لمجمع الكرادلة، قاد الكاردينال راتزينجر الاجتماعات التحضيرية لانتخاب البابا القادم بشكل متميز؛ فقد ظل رئيسًا لمجمع العقيدة والإيمان على مدار أربعة وعشرين عامًا، وكان يرحب ويستقبل الكرادلة الذين يأتون إلى روما في زيارات للفاتيكان، وكان يمتلك ذاكرة استثنائية. لقد كان يعبر عن جدلية اللاهوتي ورجل الدين الذي يُبرر مركزية المؤسسة الكنسية، وفي ذات الوقت يحظى بالثناء والاحترام من جانب كرادلة وأساقفة الكنيسة الجامعة الذين يتلامسون مع مجاملته وحضوره في استقبالهم. وفي تلك اللحظة - ومع دوره وحضوره في قيادة أعمال المجمع الكبير للكنيسة- كانت سمات راتزينجر هذه تتحقق وتتثبت لدى جموع الكرادلة؛ حيث تعرف عليه الكرادلة عن قرب، وتعرف هو عليهم أكثر، كان يناديهم بأسمائهم، وعادة ما كان يتحدث معهم بلغتهم. وعلى مدار أسبوعين - قبل انعقاد مجمع انتخاب البابا - قام راتزينجر بالعمل على رعاية وتوحيد الجسد المجمعي لكرادلة الكنيسة الذي كان يشوبه بعض التشوه والانقسام.

 

اتجه الكرادلة إلى فندق سانت مارتا المقر الجديد لهم وقت إنعقاد مجمع انتخاب البابا في مساء يوم السبت 17 ابريل 2005 ، في الصباح التالي قاموا بصلاة القداس؛ لأجل اختيار البابا الجديد؛ والذي يصلي بطقس خاص من أجل انتخاب الحبر الأعظم الجديد بكنيسة القديس بطرس. في مساء الثامن عشر من ابريل، دخل 115 كاردينالًا إلى كنيسة السيستين، أقسم الكرادلة على طاعة الإجراءات والتعهد بعدم الإفصاح عن تفاصيل الاقتراع، قبل إغلاق أبواب الكنيسة عليهم، قبل أن تُغلق أقفال الباب الكبير للكنيسة صاح نائب رئيس المجمع؛ قائلًا "كونكلاف" ممسكًا بالمفتاح الكبير لكنيسة السيستين. كانت أول جولة اقتراع في تمام الخامسة والنصف مساء، وبعدها باربعة وعشرين ساعة في أولى جلسات الاقتراع في مساء اليوم التالي، وهي جلسة الاقتراع الرابعة بالكونكلاف، تم انتخاب جوزيف راتزينجر حبرًا أعظم للكنيسة الكاثوليكية باسم بينيديكت السادس عشر. 

في الاقتراع الأول في مساء الاثنين، حصل راتزينجر على سبعة واربعين صوتًا، وتلاه بيرجوليو –البابا فرنسيس لاحقاً- بعشرة أصوات. في صباح اليوم التالي، كان من المقرر إجراء اقتراعين ؛خلال الاقتراع الأول، أرتفعت الأصوات التي حصل عليها راتزينجر إلى خمسة وستون صوتًا، وأرتفعت الأصوات التي حصل عليها بيرجوليو إلى خمسة وثلاثون صوتًا، مع خمسة عشر صوتًا مقسمة بين أخرين، عاد الكرادلة لفندق سانت مارتا لمزيد من المباحثات المثيرة، عند تلك المرحلة، قام بيرجوليوعلى الغداء متوسلاً إلى الكرادلة الأخرين -وهو يبكي تقريبًا-" ليصوتوا من أجل إختيار راتزينجر، لم يكن واضحاُ إن كان قام بذلك" بالتحدث إليهم فرادى أو بمخاطبتهم بشكل علني". في التصويت الأول في مساء ذلك اليوم، انخفضت أصوات بيرجوليو إلى ستة وعشرين صوتًا، في حين تم انتخاب راتزينجر بواقع اربعة وثمانين صوتًا.

 

بحسب عادة البابوات السابقين بتغيير أسمائهم لدى انتخابهم؛ قام راتزنجر باختيار اسم بنيدكتوس كاسم البابوي، تأتي جذور الكلمة من اللغة اللاتينية وهي تعني في اللغة العربية: مبارك أو المبارك. بحسب تصريح البابا فهو قد اختار هذا الاسم على شرف البابا بندكت الخامس عشر، وكذلك القديس بنيدكتوس النيرسي. بنيدكتوس الخامس عشر كان البابا خلال الحرب العالمية الاولى وسعى إلى إنهاء الحرب والتأليف بين الأمم المتحاربة، أما القديس بنيدكتوس فهو مؤسس الرهبنة البندكتية وهي واحدة من أقدم الرهبنات في أوروبا ومعظم الأديرة في العصور الوسطى كانت تابعة لها، ولا تزال مؤلفات القديس بنيدكتوس النيرسي تشكل تأثيرًا كبيرًا في الحياة الرهبانية المسيحية الغربية.

 

خلال لقائه مع الحشود في ساحة القديس بطرس يوم 27 أبريل 2005؛ أوضح البابا سبب اختيار اسم بنيدكتوس: "مملوءًا بمشاعر الرهبة والشكر، أود أن أتكلم عن سبب اختياري اسم بنيدكتوس السادس عشر. أولاً، أتذكر البابا بنيدكتوس الخامس عشر، رسول السلام الشجاع الذي قاد الكنيسة في أوقات مضطربة كانت تعصف في العالم. وعلى خطاه أضع خدمتي في سبيل المصالحة والوئام بين الشعوب. بالإضافة إلى ذلك، أذكر القديس بندكت النيرسي، الراعي في أوروبا، والذي يؤكد على الجذور المسيحية لهذه القارة. أطلب منه أن يوفقنا جميعًا لفهم مركزية دور المسيح في حياتنا المسيحية." 

 

عمد البابا خلال حبريته إلى تقليص مؤسسات الكوريّا الرومانية، وهي أشبه بوزارات الفاتيكان الخاصة، من خلال دمج المجلس البابوي للمهاجرين مع المجلس البابوي من أجل العدالة والسلام في 2 مارس 2006، ومن ثم دمج المجلس البابوي من أجل الثقافة مع المجلس البابوي للحوار بين الأديان، غير أن المجلس البابوي للحوار بين الأديان أعيد كهيئة مستقلة في مايو 2007. سوى ذلك فقد استحدث البابا مجلسًا جديدًا لتعزيز التبشير الجديد في العالم، وعيّن الأسقف سالفاتوري فيسيكيلا وأول رئيس له.

 

حتى أكتوبر 2010 كان البابا قد عيّن دفعتين من الكرادلة، الأولى عام 2007 شملت 24 كاردينالاً جديدًا بينهم كاردينال من العراق هو عمانوئيل دلي بطريرك الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية؛، والثانية عام 2010 شملت 24 كاردينالاً أيضًا بينهم كاردينال من مصر هو أنطونيوس نجيب بطريرك الأقباط الكاثوليك؛ وبالتالي يبلغ عدد الكرادلة العرب في مجمع الكرادلة المؤلف من مائة وعشرين عضوًا ثلاثة بإضافة نصرالله صفير البطريرك الماروني الذي سبق ومنحه يوحنا بولس الثاني لقب كاردينال. أما على صعيد الأساقفة فقد عيّن البابا عددًا كبيرًا من الأساقفة الجدد أيضًا وقد وجه إرشادًا رسوليًا خاصًا لهم.

 

افتتح البابا بنيدكتوس السادس عشر سينودس "مجمع" الشرق الاوسط في كاتدرائية القديس بطرس في الفاتيكان في 10 أكتوبر 2010 وختم أعماله في 24 أكتوبر 2010، نوقشت خلاله قضايا تخص الكنيسة الكاثوليكية بشكل داخلي، وقضايا تخص علاقتها مع الطوائف المسيحية غير الكاثوليكية كقضية توحيد الاحتفال بعيد الفصح وتنظيم الزواج بين مختلف الطوائف. السينودس ناقش أيضًا قضايا سياسية وعلاقة المسيحيون العرب بالمسلمين وكذلك الصراع العربي الإسرائيلي. أبرز المواقف التي خلص إليها المجمع المطالبة بإعلان اللغة العربية إحدى اللغات الأساسية المعتمدة في الكرسي الرسولي، والاهتمام بوسائل الإعلام الكاثوليكية وتقويتها، والدعوة لتفعيل حوار الأديان، ورفض فكرة أرض الميعاد لدى الديانة اليهودية، والمطالبة بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وطالب بتحقيق حل الدولتين والانسحاب من سائر المناطق المحتلة كالجولان ومزارع شبعا، أشار السينودس أيضًا إلى رفضه التام لمعاداة السامية التي يتعرض لها اليهود وكذلك الإسلاموفوبيا ومعاداة المسيحية التي تظهر من خلال أعمال العنف في العراق وتهجير المسيحيين من بلدانهم. وأكد أيضًا أن المسيحيين العرب جزء أساسي من الوطن العربي ولا يجب التعامل معهم كأقليات منقوصة الحقوق، بما فيها نظام أهل الذمة.

 

تعتبر العلاقات بين الكرسي الرسولي والمسلمين عمومًا جيدة خلال حبريته، باستثناء مضاعفات محاضرة البابا في ألمانيا يوم 12 سبتمبر 2006 حين تطرق لموضوع «آيات القتال» في القرآن واستشهد بنص تاريخي لحوار بين الإمبراطور البيزنطي وأحد المفكريين الفارسيين حول دور النبي محمد، يقول فيه الإمبراطور أنّ النبي «أمر نشر الدين بالسيف». محاضرة البابا لم تكن للحديث عن المسلمين بشكل مخصوص، بل هو ناقش أيضًا الوضع في الديانة اليهودية والمسيحية، ليصل إلى نتيجة مفادها أن الأديان عمومًا والمسيحية على وجه الخصوص، مرتكزًا على تعاليم يسوع ترفض أي قوّة في نشر الدين. 

اندلعت مجموعة من المظاهرات في عددٍ من الدول ذات الغالبية الإسلامية وطالبت البابا بالاعتذار والبعض طالب بقتله وتعرّض للمسيحية بالإساءة؛ وقد اعتبر عدد من المحللين من أمثال الصحفي الفلسطيني المسلم صقر أبو فخر أن الحدث قد تمّ تضخيمه واستغلاله، وأنه كان من الأوجب أن يقوم شيخ الأزهر أو رئيس رابطة العالم الإسلامي بإرسال رسالة للبابا تشرح الموقف، فيظلّ السجال بين مثقفين وأكاديميين. في 25 سبتمبر 2006 التقى البابا سبعة عشر سفيرًا من سفراء الدول الإسلامية المعتمدين لدى الفاتيكان وألقى خطابًا أبدى به أسفه من تداعيات الموقف، وأكّد على الجوانب المشتركة بين المسيحية والإسلام، وشكّل ذلك بداية أفول المظاهرات الاحتجاجية، التي طبعت بداية حبريته.

 

قام البابا بنيدكتوس السادس عشر خلال زيارته تركيا في 30 نوفمبر 2006 بزيارة مسجد السلطان أحمد، ليكون بذلك ثاني حبر أعظم يقوم بزيارة لموقع إسلامي بعد يوحنا بولس الثاني الذي زار الجامع الأموي في دمشق عام 2001؛ وزار أيضًا مسجد الملك الحسين خلال زيارته الأردن في 9 مايو 2009، كذلك فقد التقى ملك السعودية عبد الله بن عبد العزيز ليكون بذلك أول لقاء بين ملك سعودي ورأس الكنيسة الكاثوليكية وأول زيارة من قبل ملك سعودي للفاتيكان. 

 

في عام 2001 صرح الكاردينال راتزنجر بأن المسؤولية الأساسية عن التحقيق في الاعتداءات الجنسية وتأديب مرتكبيها تعود على عاتق الأبرشيات، وفي العام 2003 وسع الكاردينال راتزنجر، بوصفه رئيس مجمع العقيدة والإيمان، مروحة الحالات التي تندرج في إطار «الجرائم الكنسية الجنسية» والتي يحرم مرتكبها مباشرة من الديانة المسيحية لتشمل أي استغلال أو عمل جنسي تحت عمر 18 عامًا إلى جانب الاستغلال الجنسي عن طريق الشبكة العنكبوتية. وصف الباحث جون آلين البابا بالشجاع والمتحمس لإزالة هذه الفوضى من الكنيسة. وأضاف: لقد أبدى الكاردينال راتزنجر قدرًا كبيرًا من الحكمة والحزم في التعامل مع تلك الحالات، ما يدل أيضًا على شجاعة كبيرة في مواجهة القضايا الأكثر صعوبة.

 

في مارس 2010 أصدر البابا رسالة رعوية إلى الكنيسة الكاثوليكية في إيرلندا أعرب خلالها عن الحزن والتعاطف مع أهالي الضحايا، والتعامل بقسوة مع من ثبت تحرشهم خلال منتصف القرن العشرين بأطفال في مدارس تديرها الرهبنات الكاثوليكية في البلاد؛ الجماعات المساندة للضحايا طالبت بأن يكون التحقيق علنيًا، انطلاقًا من مبدأ بأن القضية أهم من القانون الكنسي المتعلق بسرية التحقيق، على أن دستور أصول المحاكمات الكنسية الجديد، الذي أصدره البابا في أبريل 2010 لم يختلف عن سابقه في هذه القضية وحافظ على سرية التحقيق والمحاكمة.

 

في حديث البابا بنيدكتوس إلى الكرادلة في فبراير من العام 2012، كان القليل يوحى بأنه يفكر في الاستقالة؛ حيث طلب صلاتهم من أجل "أن يظل قادرًا على أن يقدم لشعب الرب شهادة العقيدة السليمة، وأن يُرشد الكنيسة المقدسة بيد حازمة ومتواضعة"؛ غير أنه في ختام زيارته السريعة للمكسيك وكوبا في الشهر التالي لكلماته تلك، أدرك البابا أنه لن يستطيع الإستمرار في مهمته. خلال زيارته للمكسيك تعثر البابا الألماني في أثناء صعوده على عتبات كاتدرائية ليون بجواناجواتو، وفي تلك الليلة أصطدمت رأسه وهو في طريقة إلى دورة المياة؛ حيث كان يقيم بأحد فنادق المدينة. لم يكن الجرح غائرًا، وعرف به القليلون؛ لأن قُبعته البابوية كانت تخفيه، غير أنه وكما يحدث عادة للناس في تلك الأوقات، أظهرت تلك الحوادث وهن (هشاشة) قدرته في مثل هذا العمر وهو ما أحدث مفاجأة للكثيرين.

هذا الوهن بالتحديد، ليس فضائح الفاتيكان-تلك التي كانت صادمة بالنسبة له- هو ما دفع البابا بنيدكتوس للتفكير في خطة التنحي. مع التكتم على هذا السر عن الكثيرين باستثناء القليلين من مسشاريه المقربين؛ والذين بالرغم من سمو مكانتهم في الفاتيكان في ذلك الوقت، لم يكن الأمر سهلًا بالنسبة لهم، حيث اتفق معهم على أن يكون يوم الاستقالة خلال أقل من عام، في يوم الثامن والعشرين من فبراير من العام 2013، وأن يتم الإعلان عن الاستقالة قبل سريانها بأسبوعين. ما يمنح الفرصة للسماح للبابا الجديد من استلام مهامه قبل عيد القيامة للعام 2013، وليذهب لقيادة الأيام العالمية للشباب بريودى جانيرو في شهر يوليو بذات العام.

كان يوم 11 فبراير من العام 2013، عطلة  بالفاتيكان، تذكاراَ لما حدث في ذات اليوم من العام 1929؛ بانتهاء المواجهة بين السلطات الإيطالية والأعتاب الرسولية بالفاتيكان، وقتها؛ أنتهي ما يشبه الأحتلال الإيطالي للفاتيكان. في ذلك اليوم دعا البابا بنيدكتوس إلى اجتماع كنسي مصغر، ضَّم فقط الكرادلة المقيمين في روما، رسميًا كان الأجتماع لإعلان قداسة ثلاثة قديسين جدد. كان من بين المتواجدين في قاعة الأجتماع في ذلك اليوم رئيس الأساقفة الأسكتلندى ليو كوتشلي الذي وصف البابا حينها بأنه كان يبدو مجهدًا، ولكنه -بصفة عامة - كان بخير، ولكنه -كوتشلي-لم يكن يعرف ما سيحدث يومها. بعدما قام الكاردينال انجيلو أماتو - رئيس مجمع القديسين بقراءة قائمة الطوباويين الثلاثة المدعوين قديسين، قام البابا بنيدكتوس بمساعدة سكرتيره - رئيس الأساقفة جورج جانشوين - بالقاء كلمته المكتوبة كالمعتاد. ساعدت اللغة اللاتينية التي يفهمها رئيس الأساقفة كوتشلى أيضًا من أن يفهم ما قاله البابا: "لقد توصلت إلى أن قواي وبسبب التقدم في السن، لم تعد مناسبة لتنفيذ متطلبات المهمة الرسولية". استطرد البابا؛ قائلًا: "أنا على وعي بأن هذه الخدمة، في ضوء طبيعة وجوهر روحانيتها، تفرض أن يتحمل المرء مسئولية الأفعال والأقوال، وليس فقط على مستوى الصلاة والمعاناة. وبالرغم من ذلك، في عالم اليوم، الأمر بالنسبة للتغيرات السريعة والصادمة على مستوى أعمق بات مرتبطا بالحياة والإيمان، من أجل إدارة شئون كرسي القديس بطرس والدعوة للإنجيل، كلاهما بحاجة ضرورية إلى يقظة الذهن وقوة الجسد، قوة شهدت خلال الأشهر القليلة الماضية تدهورًا بداخلي؛ للدرجة التي معها أدركت عجزى في الوفاء بالأمانة المعهود إلىَّ بها".

كانت المغادرة المؤثرة للبابا بنيدكتوس السادس عشر للفاتيكان في مساء يوم 28 فبراير متوجهًا إلى كاستيل جوندولفو، والتي بثها تلفزيون الفاتيكان المركزى، وقام بإخراجها بطريقة سينمائية مبهرة المونسينيور داريو فيجانو أستاذ السينما ومدير تلفزيون الفاتيكان، مع صعود الطائرة الهليوكوبتر البيضاء التي يستقلها البابا إلى سماء الفاتيكان وتوقفها مرتين أعلى قبه كنيسة القديس بطرس قبل أن تتحرك عبر سماء روما التي تلتقى بظلالها عبر شمس روما الخافتة معانقة لتلالها. أعاد هذا المشهد إلى الأذهان المشهد الافتتاحى الشهير للمخرج الإيطالي العبقرى فيدريكو فيلينى في فيلمه "لذة الحياة"، عندما ظهر تمثال المسيح مُعلقًا ومنقولًا عبر طائرة هليوكوبتر إلى الفاتيكان وكان يبدو كما لو كان يبارك المدينة من السماء عبر ظلالها، هكذا؛ أراد فيجانو أيضًا أن يظهر مشهد مغادرة البابا على أنه رحلة البابا لمنح البركة الختامية لروما.

مع نياحة الحبر الاعظم البابا بنيدكتوس السادس عشر والعلامة اللاهوتي جوزيف راتزينجر فالمسيحيين الكاثوليك مدعوين للوقوف طويلًا مُتأملين في فعل الاحتجاب الذي قام به هذا الرجل، الذي ربما يتساوى في قيمته من حيث محاولات إصلاح الكنيسة مع ما قام به البابا يوحنا الثالث والعشرون عندما دعا لانعقاد المجمع الفاتيكاني الثاني؛ قبل استقالة بنيدكتوس بخمسين عامًا تقريبًا؛ ذلك الفعل الذي ظل البابا الفخري يقوم به حتى يوم وفاته بعدم التدخل في شئون إدارة الكنيسة، والاكتفاء بالصلاة لأجلها ولأجل إرساليتها وفي الصمت والاستعداد لملاقاة الخالق، والاستمتاع بمعاينة النور الإلهي.

ان نموذج البابا بنيدكتوس السادس عشر يعكس وبمنظور مسيحى كنسي قيادة الروح القدس للكنيسة الجامعة، ذلك الذي يحرك أفعال خدامها، ويدفع بمبادراتهم لتقديم نماذج في الإصلاح، والانفتاح، والتعلم، والتجرد، والاتضاع، وكسر المألوف، والابتعاد عن اليقين، والظن في السلطة والمعرفة المطلقة.

 

الباحث إبراهيم ناجي
الباحث إبراهيم ناجي