ليس التنوير مجرد مشروع فكري بدأ في أوربا في القرن الثامن عشر، ولكن التنوير عملية إبداعية وثقافية مستمرة تبدأ ولا تتوقف، فلا يرتبط التنوير بحقبة زمانية ومكانية محددة، ولكنه مسألة ترتبط بالواقع الحضاري للإنسان، وبقدرته على تحسين وتطوير وضعه في الكون. ومع ذلك لا يمكن لنا أن ننكر أن ميراث التنوير يرتبط بصورة مباشرة بمشروع التنوير الذى تبلور في أوربا على أيدى بعض المفكرين من أمثال "جان جان روسو" "وديدرو" "وفولتير" "وهلفشيوس" "ودى هولباخ".. وغيرهم هؤلاء ممن كان لهم الفضل الأكبر في ترسيخ ونشر تعاليم وقيم التنوير. لكن هذا الاعتراف لا يعنى أن مشروع التنوير هو ملكية خاصة للأوربيين وحدهم، وإنما هو مشروع إنساني كان يستهدف تحرير الإنسان من كافة القوى السياسية والاقتصادية واللاهوتية التي تحد من قدرته، والتي تحاول مصادرة حقه في الحياة والوجود والعيش الكريم. وعبر هذه الرؤية نتحدث عن التنوير.
والتنوير أو الأنوار كإحالة إلى النور هي عكس الظلام والظلامية فإذا كان العصر الوسيط في أوربا يُشير إلى عصر الظلام حيث تم إقصاء العقل واستبعاد الإنسان وسيطرة اللاهوت والكهنوت فإن التنوير يُشير إلى الحضور الطاغي للعقل وإلى تسيد الإنسان للمشهد الثقافي والحضاري، ولذلك فإن كانط الفيلسوف الألماني يحدد التنوير بأنه الجرأة على استخدام عقولنا بلا حدود في كل الجهات وفى كل الموضوعات. قاعدة أن نفكر دومًا بأنفسنا هي الأساس الذي عليه يتأسس كل تنوير حقيقي. الفكرة الرئيسية لفلسفة التنوير بشكل عام هي: أن العقل منذ الآن أصبح حاكمًا لهذا الوجود حتى في الجانبين الأخلاقي والديني، علينا أن نسلك بحسب القاعدة التي بمقتضاها يصبح العقل هو القاعدة أو القانون الأخلاقي.
والجدير بالذكر أن اهتمام عصر التنوير بالإنسان لم يقف عند حدود العقل فحسب بل امتد أيضًا إلى مشاعره وعواطفه وغرائزه وجسده، ولذلك ربط بعض المفكرين (في الغرب والشرق معًا) بين التحرر من الملابس وبين النزوع إلى التنوير ومن ثم فقد أصبح الحجاب وإخفاء جسد المرأة هو شعار العالم القديم، في حين أصبح السفور وكشف الوجه والجسد هو رمز للعالم الجديد.
ولا شك في أن التحرر عملية شاملة تشمل العقل والوجدان والغرائز والجسد، ومع ذلك ينبغي الانتباه إلى أن التنوير هو في أساسه تحرر للفكر وانعتاق للعقل من أسر المسلمات والتابوهات والأفكار الموروثة. أما مسألة ارتباط التنوير بالعري والسفور بالنسبة للنساء، فهي مسألة هامشية بالنسبة لي خاصة في مجتمعاتنا العربية المسلمة التي تعاني فيها المرأة من حالة اغتراب عن ذاتها، نتيجة أن جسدها ليس ملكًا لها، وهو نوع من الاغتراب أقرب ما يكون إلى معنى فقدان السيطرة. فالثقافة الذكورية تتعامل مع الجسد الأنثوي بوصفه ملكية خاصة للرجل: الأب، الأخ، الزوج. ويؤدي عدم امتلاك المرأة المسلمة لجسدها إلى شرعنة مراقبة المجتمع للحياة الجسدية والجنسية للمرأة واعتبارها أمرًا عامًا لا يخصها وحدها. وعدم ملكية المرأة لجسدها يعني في الوقت ذاته انعدام الفصل بين جسد الأنثى والجسد الرمزي للمجتمع أو للأمة، كما يعني نفيًا للمرأة كفرد أو كذات. ومع ذلك فإن سيطرة المجتمع الذكوري على جسد المرأة لم تستطع أن تصادر حريتها الفكرية، فقط ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي على تثوير وتنوير وعي آلاف النساء والفتيات اللاواتي أصحبن يرفضن هذه العبودية المفروضة عليهن باسم الأعراف والتقاليد والمعتقدات، ومن ثم فقد أفلت التنوير بمعناه العقلي من هيمنة وسيطرة القمع الذكوري، ربما لأن ما يشغل المجتمعات الذكورية هو جسد المرأة لا عقلها، ولذلك فقد تجد كثير من السناء المحجبات أكثر استنارة ووعيًا من أخريات غير محجبات، خاصة من الفتيات المراهقات اللاوتي يتخذن من العري نوعًا من الاحتجاج على هذا المجتمع، لكن عندما تفتش في عقلها وتستقرئ رؤيتها للحياة تكتشف أنك أمام امرأة تنتمي للمجتمعات القبلية !!
ما أريد أن أقوله هو أن المظهر الخارجي ليس دالًا كاشفًا لعقل الإنسان. فأنا لا يعنيني ماذا ترتدي المرأة، وهل هي سافرة أو محجبة، إن ما يعنيني ليس حجاب الرأس، ولكن حجاب العقل، حجاب الرأس يغطي فقط شعر الأنثى أما حجاب العقل فيحجب عنها نور المعرفة، ويحرمها من الرغبة في التحرر، ويجعلها تعشق عبوديتها وتستمرئ إحساسها بالخضوع لوضعيتها المتدنية، وترتضي بأن تكون دومًا مجرد كائن زائد عن حاجة الرجل.