انتهت تونس من خطوات خارطة الطريق السياسية التى رسمها مسار الخامس والعشرين من يوليو، بانتهاء الانتخابات التشريعية التى نظمتها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، ومن المقرر أن تبدأ مرحلة سياسية جديدة فى البلاد بعد إقرار دستور جديد بدلا من الدستور الذى وضعته حركة النهضة الإخوانية وأدى لشلل سياسي، وإدخال تعديلات على المجلس الأعلى للقضاء والمحكمة الدستورية لتطهير المنظومة بكاملها من الاختراقات الإخوانية التى عطلت الكثير من القضايا المتعلقة بالإرهاب والفساد المالى والاغتيالات السياسية وأى قضايا تطال عناصرهم.
طوال المسار الإصلاحى الذى تعهد بتنفيذه الرئيس التونسى قيس سعيد، واجهته الكثير من الشائعات أطلقها التنظيم الدولى لجماعة الإخوان الإرهابية ضده مثل سقوط البلاد فى عزلة سياسية وهو ما تأكد عدم صحته من استضافة القمة الفرنكوفونية التى ضمت نحو ٩٠ وفدًا دوليًا على رأسهم الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء الكندى وآخرين.
وطال الرئيس الجزائرى عبدالمجيد تبون، قسطًا كبيرًا من هجوم الجماعة الإرهابية لمواقفه الداعمة من الدولة التونسية والرئيس قيس سعيد، فقد كانت الجزائر من أقوى الدول التى وقفت بجوار تونس ومدتها بالدعم وأعلنت مساندتها خاصة بعد قرارات يوليو التى أعلنها «سعيد» فى العام ٢٠٢١ نتج عنها الإطاحة بحركة النهضة الإخوانية التى ظلت مسيطرة على زمام الأمور فى البلاد لما يقرب من عشر سنوات سميت عند بعض المحلليلن والمراقبين للمشهد بـ«العشرية السوداء».
وفى تصريح للرئيس «تبون»، الخميس الماضي، أكد فيه وقوف بلاده بجانب تونس، وثقته الكاملة فى عبور الأخيرة الأزمة الاقتصادية، ونقلًا عن وسائل إعلام تونسية محلية، فإن «تبون» أكد أن بلاده لا تتدخل فى الشئون الداخلية لتونس، وتكن كل الاحترام للشعب التونسي، معبرا عن رفضه للتدخل الأجنبى فى الشأن للتونسي، كما أنه أثنى على الطبقة السياسية فى تونس ووصفها بالوطنية والواعية.
حكومة جديدة وأزمة اقتصادية
من جانبه، قال الكاتب والمحلل السياسى التونسى نزار الجليدي، إن كل السيناريوهات فى تونس باتت ممكنة بعد عملية سياسية معقدة، فبعد الانتخابات التشريعية يبقى الهاجس الأول والأخير للتونسيين هو العامل الاقتصادى والعامل الاجتماعي، والتخلص من ضغط القوى الخارجية على تونس اقتصاديًا لفرض مجال خانق فى مجالها الحيوي، لكن التحالف التونسى الجزائرى الجديد خاصة بعد تصريح الرئيس «تبون»، الخميس الماضي، حول العلاقات المتينة بين البلدين، وأيضًا معطيات جديدة فى المشهد القضائى بعد إيقاف نائب رئيس حركة النهضة على العريض، ربما يتبعه إيقافات عدة يشيع حالة من الثقة فى الحكومة.
وأضاف «الجليدي» فى تصريحات خاصة لـ«البوابة نيوز»، أنه متوقع للغاية تشكيل حكومة جديدة لإعطاء نفس جديد، خاصة وأننا على أبواب ميزانية جديدة فى ظروف خانقة، ونحن فى تونس لسنا بمنأى عما يحدث فى العالم، فالوضع الداخلى هو وضع خاص جدًا مرتبط باقتصاد موازى مرتبط بملفات الفساد، إلى جانب ارتهان الاقتصاد بالمشاكل الدولية وخاصة فى دول الجوار، فى الجزائر وليبيا، الأخيرة مثلا كانت تمثل مداخيل مالية مهمة لتونس فقدناها فى السنوات الأخيرة.
وأوضح المحلل السياسي، أن خطر الإرهاب خطر موجود وقائم يهدد كل بلدان العالم، والحكومات تشتغل على الحماية منه، وهو خطر قائم باعتبار بقاء التهديدات فى ليبيا، وهو خطر يهدد أمن الجزائر وتونس، وهى أوراق فى يد جماعة الإخوان الإرهابية تستخدمها ضد الدول فى أى وقت، لكننا فى تونس نعول على الجاهزية الأمنية، والتنسيق الأمنى العالى مع دول الجوار مثل الجزائر.
أعمال عنف متوقعة
بدوره، قال الكاتب إسلام الكتاتني، الباحث فى شئون الجماعات المتطرفة: «يُحسب للرئيس التونسى أنه استطاع تنفيذ خطواته الإصلاحية التى وضعها، والتى كان من عيوبها بطء الإجراءات، ما أعطى فرصة للإخوان وبعض المعارضين من مهاجمة خطواته وكسب أرضية فى الشارع من أجل الترويج لروايتهم عن ارتكاب الرئيس لانقلاب فى البلاد».
وأضاف «الكتاتني» فى تصريحات خاصة لـ«البوابة نيوز»، أنه من المتوقع استمرار الصراع السياسى لاستغلال الإخوان الأزمة الاقتصادية فى تونس وتحميلها للرئيس، رغم أنها نتيجة تراكمات العشرية السوداء التى حكمت فيها حركة النهضة، بالإضافة لتأزم المشكلة نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية ومن قبلها أزمة كورونا، مع العلم أنه من أسباب خروج قرارات يوليو هو الوضع الاقتصادى المتراجع فى سنوات حكمهم.
وأوضح الباحث فى شئون الجماعات، أن البرلمان الجديد واستكمال مؤسسات الدولة وتشكيل حكومة يسحب من الخصوم شرعية الكثير من الأوراق التى يتحدثون بها، لكن هذا لن يجعلهم يتوقفون عن الصراع، مع وضع فى الحسبان أن إخوان تونس يتمتعون بالذكاء فى إدارة معاركهم خلافًا لإخوان مصر، فمن المستبعد أن يقع صدام مسلح مع الدولة التونسية لكن المناوشات وبعض العمليات والاغتيالات ربما تحدث، وخاصة عند النبش فى قضية تسفير الشباب إلى بؤر التوتر، أو تتبع خلايا الجناح المسلح.
ولفت «الكتاتني» إلى أن الإخوان فى تونس انتهت بهم الحياة السياسية إلى مرحلة لفظهم الشعب ووقف بجوار الرئيس فى قرارته، لذا فالمصير يتشابه مع إخوان مصر، وإن اختلف التكتيك، وسقطت كل شعاراتهم أنها حركة مدنية ولا تؤمن بالعنف، خاصة بعدما ظهر تورطهم فى قضية تسفير التونسيين إلى سوريا.
وعن التحالف مع الجزائر، قال الباحث: «يبدو لى أن الرئيس الجزائرى تبون يعمل بجدية، وفى ظنى أن قيس سعيد يحتاج للتحالف بقوة معه، خاصة أن الجزائرى شخصية محنكة استطاع استيعاب المشهد الجزائرى والتعامل معه بتوازن شديد، والجزائر مستمرة فى الكشف عن خلايا إرهابية وتفكيكها، لذا فالتنسيق مع جارتها تونس لا بد وأن يكون خلفيته مواجهة الإرهاب، ومثل هذا التعاون يمثل ضربات استباقية لأى أحداث عنف قد تنشب فى تونس، نظرًا لبحث الأخيرة قضائيا فى الملف السرى لجماعة الإخوان الإرهابية».
ملاحقات أعضاء حركة النهضة
وسط أجواء متفائلة بمحاسبة أعضاء «النهضة» المتورطين فى قضايا فساد مالى وتهم متعلقة بالإرهاب، أصدر قاضى تونسي، قبل أيام، أمرًا بالسجن بحق رئيس الوزراء التونسى السابق على العريض نائب رئيس حزب النهضة، فى ما يعرف بملف تسفير المقاتلين إلى بؤر التوتر والإرهاب.
وفى محاولة للتنصل من التهم الموجهة للحركة، قال القيادى الإخوانى والوزير فى حكومة «العريض»، نور الدين البحيري: «لا علاقة لى ولأبناء الحركة سواء من المسئولين فى الدولة أو من خارجها بموضوع العنف والتسفير ونحن أول من تصدى له».
وبعده بيومين، أصدر قاضى التحقيق بالمحكمة الابتدائية بأريانة، بطاقتى إيداع بالسجن فى حقّ محمد الخريجي، مدير وحدة مكافحة الإرهاب بالقرجانى سابقًا، وبوبكر العبيدى مدير حفظ الوثائق بالإدارة العامة للمصالح المختصة بوزارة الداخلية، وذلك على ذمة الأبحاث المتعلقة بما يعرف «بالغرفة السوداء بوزارة الداخلية».
وترتبط قضية «الغرفة السوداء» بالقيادى الإخوانى مصطفى خضر، قائد الجناح السرى المسلح داخل الجماعة، والذى باشر عمليات إرهابية استخدم فيها نفوذ وزارة الداخلية التونسية إبان سيطرة الجماعة الإرهابية على الحكومة بشكل كامل، ساعتها تم نقل مجموعة من الوثائق والأحراز إلى وزارة الداخلية دون محضر ضبط أو حجز، وإخفاء هذه الوثائق والأحراز داخل غرفة، تم التعتيم عليها لفترة طويلة، ولم يتم الاعتراف الرسمى بوجود هذه الغرفة إلا بعد تنقل قاضى التحقيق فى قضية اغتيال محمد البراهمى إلى وزارة الداخلية وحجزه للصناديق الكرتونية والأكياس داخل الغرفة.
التشكيك فى الانتخابات البرلمانية
أكد الرئيس التونسى فى اجتماع له مع رئيسة الوزراء نجلاء بودن، ١٩ ديسمبر الجاري، أن تونس تشهد عدة صعوبات نتيجة للأوضاع التى كانت سائدة لمدة عقود وخاصة فى السنوات العشر الأخيرة، هذا إلى جانب التحولات الكبرى التى يشهدها العالم اليوم، وأكد رئيس الدولة على أن تكون المقاربة قائمة خاصة على العدل الاجتماعى كما ينصّ على ذلك الدستور، وتناول اللقاء جملة من المواضيع أهمها الدورة الأولى لانتخاب أعضاء مجلس نواب الشعب.
وتطرق رئيس الجمهورية إلى عدد من ردود الفعل من قبل بعض الجهات المعروفة التى لم تجد هذه المرة شيئا تركز عليه سوى نسبة المشاركة فى هذه الدورة الأولى للتشكيك فى تمثيلية مجلس نواب الشعب القادم فى حين أن نسبة المشاركة لا تقاس فقط بالدور الأول بل بالدورتين، ومثل هذا الموقف القائم على التشكيك من جهات لا دأب لها إلا التشكيك فضلا عن تورط البعض فى قضايا لا تزال جارية أمام المحاكم مردود على أصحابه بكل المقاييس بل هو شبيه بالإعلان عن نتيجة مقابلة رياضية عند انتهاء شوطها الأول.
وأضاف بيان الرئاسة، أنه من المفارقات التى تشهدها تونس هذه الأيام أن الذين يحاولون التسلل بأى طريقة كانت فيهم فضلًا عن المتورطين فى قضايا عمالة وفساد من لم يفز فى الانتخابات التشريعية الماضية إلا ببضع عشرات من الأصوات أو ببقية باقية منها نتيجة لطريقة الاقتراع التى كانت معتمدة.
أخطبوط الجمعيات والتمويلات
أدخل الرئيس التونسي، تعديلات ضرورية على المشهد السياسى فى البلاد، أملًا فى التخلص من السيطرة الإخوانية على زمام الأمور فى البلاد، بينما من المرجح أن تنتبه الدولة تباعًا لدور التمويلات الخارجية والجمعيات الوهمية التابعة للإخوان فى الخفاء، لاستمرار عدم الاستقرار السياسي، وفى مارس الماضي، أشار الرئيس التونسى إلى القضية فى كلمة له قائلًا: «يجب منع الجمعيات غير الحكومية من التمويلات الخارجية، وسنقوم بذلك، هى فى الظاهر جمعيات ولكنها امتداد لقوى خارجية، لن نسمح بأن تأتى الأموال من الخارج للعبث بالبلاد ولا مجال لأن يتدخل أحد فى اختياراتنا تحت أى ضغط أو تأثير».
وقادت رئيسة حزب الدستور الحر التونسى، عبير موسي، طوال الأشهر الماضية، مبادرة لحث الحكومة التونسية على الانتباه للمنظمات المشبوهة التى تضخ تمويلات أجنبية وتتعامل مباشرة مع طلاب الجامعة، ما يعزز الاختراقات الداخلية ويضع الشباب فريسة فى يد الجماعات الدينية المتطرفة التى تعمل لصالح تلك المنظمات والجمعيات المشبوهة.
وفى وقفة احتجاجية أمام وزارة التعليم العالي، ديسمبر ٢٠٢١، هتفت «موسي» وسط أنصار وأعضاء حزب الدستور الحر بأن الجامعة التونسية ليست إخوانية، مشيرة إلى توغل عدد من الجمعيات المشبوهة فى تجنيد الطلبة التونسيين.
وقالت «موسي» إن منظمات دولية مصنفة بأنها ذات علاقة بالإرهاب تضخ مليارات الأموال إلى تونس تحت مسمى مصاريف إدارية وكفالات اجتماعية، وطالبت بمصادرة أموال هذه الجمعيات والمنظمات وفتح تحقيقات فى تمويلها للإرهاب ولجماعة الإخوان.
وأضافت رئيسة الحزب أنه بصفتها شخصية سياسية مستهدفة بالتصفية مع قيادات من حزبها نظرًا لوقفته الحازمة ضد التنظيمات الظلامية الدولية المتغلغلة فى بلادنا، طالبت بكشف تفاصيل المكالمة الهاتفية التى تحدث عنها رئيس الجمهورية التونسية، وكشف الإجراءات التى يجب أن تتخذها الدولة لدرء الخطر.
القوى الخارجية
فى الوقت الذى تعول فيه الجماعة الإرهابية على عزل تونس عن العالم سياسيًا وضمان منع الدعم الدولى لها، فإن الدول خارجيًا أشادت بدور تونس فى تنفيذ خارطة طريقها من أجل عودة البلاد لوضعها الطبيعى وانتهاء الحالة الاستثنائية بعد حل مجلس النواب وتجميد الدستور.
ونقلًا عن موقع «فرانس٢٤»، فإن بيان الخارجية الأمريكية وصف الانتخابات البرلمانية بـ«خطوة أولى أساسية نحو استعادة المسار الديمقراطى فى البلاد»، أما الخارجية الفرنسية فقد أكدت فى بيان لها انخفاض مستوى المشاركة ودعت إلى استئناف المفاوضات بين تونس وصندوق النقد الدولي.
ويُعد دعم الشركاء الأجانب حاسمًا بالنسبة لتونس المثقلة بالديون والتى طلبت من صندوق النقد الدولى قرضًا رابعًا لعشر سنوات يبلغ نحو مليارى دولار، وهو ما سيمكن من فتح الباب أمام مساعدات أخرى سواء من أوروبا أو دول الخليج العربي، حيث تواجه تونس أزمة اقتصادية حادة بارتفاع مستوى التضخم فى حدود ١٠٪ فى البلاد، كما زادت تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا من غلاء أسعار المواد الأساسية كالقمح والمحروقات.
سياسة
خارطة تونس الإصلاحية.. الديمقراطية فى مواجهة رجعية الجماعة.. الغرفة السوداء وبؤر التوتر لعنة تطارد قيادات «الإخوان» قبل بداية العام الجديد
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق