لا يمكن أن تكتمل متعتك وأنت تستمع إلى أم كلثوم إلا قبل أن تعرف حكاية الكلمات وكواليس تلحينها، فالمتعة في سلطنتها هي التفاصيل في حكاية البشر، في أشطر القصائد، في ضم الحرف وكسره وفتحه وسكونه، في أنين الناي وحنان الكمان وحرية العود وسجود براجم الأصابع على جبهة البيانو، في رضوخ أوتار «الصنج» لترنيمة الحناجر، في تنافس «الترومبيت والأرغول» على زفير اللحن، ومنح شهيقه للأوكورديون، في ثورة الساكسفون، وفي ثلاثية «القانون»، كل هذا المزج والأمزجة وصهر المواهب والأشخاص في بوتقة من الإبداع كان "ثومة"..
لذا تدبر حين تستمع لتستمتع
من هنا بدأت الحكاية
فارس يسقط من على فرسه أسيرا فى يد الروم بعد أن هرب مرتين من قبل، يجلس في سجنه جزينا فقد ابتلاه القدر بهزيمتين الأولى من حبيبته والثانية من عدوه، والغريب أن من حارب لأجلهما صدقا كذب الواشين، حبيبته وابن عمه سيف الدولة الحمداني.. فلم يكن لشاعر مثله سوى أن يكتب محنته على متون الزمن فخرجت قصيدته: " أراك عصى الدمع شيمتك الصبر".
يتيمة الدهر
أكد المؤرخون فيما كتبوه عن أبو فراس أنه كان من الشعراء الذين لم يهتموا بتدوين أو نشر قصائده نظرًا لانشغاله في الحرب والسياسة، وأن الذي تولى تلك المهمة هو أحد معاصریه، يُدعى ابن خلوية، وكان يحتفظ بجزء كبير من هذه القصائد فأخذ في جمعها وشرحها، ثم جاء من بعده الثعالبي فتتبع سير هذه القصائد، التي سميت بالروميات، وجمعها في كتابه المعروف باسم «يتيمة الدهر».
ووفقا لما ذكره الدكتور أحمد درويش أستاذ الأدب العربي أن أبو فراس الحمداني يدعى الحارث بن أبي العلاء السعيد ابن حمدان ابن حمدون الحمداني، ابن عم ناصر الدين وسيف الدولة الحمداني وقد عرف في تاريخ الأدب العربي بأبي فراس وكان من شعراء العصر العباسي الثاني، ولد بمدينة الموصل عام 932 م الموافق 32 ه، وعاش 35 عاما، وقد أسره الروم مرتين الأولى ظل سجينا سبع أعوام، والثانية كانت في موقعة «مغارة كحل» عام 959 م.
يرجع الفضل في إتقان أم كلثوم لغناء هذه القصيدة الصعبة ولغيرها من القصائد إلى الملحن الكبير الشيخ أبو العلا محمد، الذى كان قد تغنى هو الآخر بتلك القصيدة من قبل أن تعنيها أم كلثوم رغم أنها ليست من ألحانه، بل من ألحان الموسيقار عبده الحامولى " ومما قيل في هذا السياق وذكره الدكتور حنفي المحلاوي في كتابه «شعراء أم كلثوم» أن الشيخ أبو العلا كان قد سجل هذه القصيدة بصوته على أسطوانات كان يتم تداولها من قبل أن تسجل أم كلثوم نفس القصيدة بصوتها على اسطوانات، وبطبيعة الحال، فلولا إتقان أم كلثوم لفن غناء القصائد لما سمح لها أصحاب شركات بتسجيل هذه القصيدة المشهورة بصوتها في هذه المرحلة المبكرة من حياتها الفنية.
ولقد أشارت كل الكتب أن أم كلثوم قد غنت قصيدة أبو فراس الحمداني.. أراك عصى الدمع، لأول مرة في عام ١٩٢٦ وهي من تلحين كما ذكرنا عبده الحامولي كما سجلتها فى نفس التوقيت على اسطوانة تابعة لشركة أوديون للفوتوغراف.
ونظرًا للنجاح الذى لاقته أم كلثوم في غنائها لهذه القصيدة، ولتأكيد دورها كذلك في مجال الدعوة لشعر الفصحى الراقي، فقد حرصت على أن تغنى قصيدة «أراك عصى الدمع مرة ثانية وذلك في عام ١٩٤٤ وبتلحين جديد وضعه الشيخ زكريا أحمد إلا أنها لم تسجلها هذه المرة على أسطوانات.
وفي كتاب النصوص الكاملة لأعمال أم كلثوم، والذى وضعته اللجنة الموسيقية العليا من بعد رحيلها تصدرت قصيدة أراك عصى الدمع لأبي فراس الحمداني هذا الكتاب مع إشارة لتوقيت غناء هذه القصيدة في المرات الثلاثة السابق الإشارة إليها. وكذلك الإشارة للأبيات التي غنتها أم كلثوم من هذه القصيدة، لأول مرة في عام ١٩٢٦ وكان عددها ستة أبيات فقط هي:
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر
أما للهوى تهى عليك ولا أمر
نعم أنا مشتاق وعندى لوعة
ولكن مثلى لا يذاع له سر
إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى
وأذللت دمعا من خلائقه الكبر
تكاد تضيء النار بين جوانحى
إذا هي أذكتها الصبابة والفكر
وفى عام ١٩٦٤، أی بعد مرور أكثر من خمسة وثلاثين عاما.. زادت أم كلثوم على هذه الأبيات السنة ثلاثة أبيات أخرى، وقد أضافتهم بعد البيت الخامس وفق الترتيب العام للقصيدة.. وهذه الأبيات الثلاثة هي:
وفيت وفى بعض الوفاء مذلة
لفاتنة في الحى شيمتها الغدر
تسائلني من أنت وهـي عـلـيـمـة
وهل لشاب مثلی علی حاله نکر
فقلت كما شاءت وشاء لها الهوى.. قتيلك
قالت أيهم فهو كثر
عبقرية السنباطي... تقدم ليكون طالبا بمعهد الموسيقى العربية فعينوه أستاذًا
ثومة والسنباطي واحدًا من أشهر وأطول الثنائيات الفنية والإبداعية التي جمعت بين مطربة وموسيقار، خصوصًا وأنهما ارتبطا بعلاقة صداقة استمرت لأكثر من 40 عامًا، ولحن لها أكثر من 100 أغنية.
بدأت العلاقة بينهما منذ أن كان عمر رياض 13 عامًا، وأم كلثوم 17، حيث كان والدها الشيخ إبراهيم البلتاجي صديقًا لوالده المنشد محمد السنباطي، وانتقلت هي قبله إلى القاهرة عام 1922، أما هو فانتقل عام 1928، وتقدم بطلب ليدرس في معهد الموسيقى العربية، فاختبرته لجنة من ثلاثة من عمالقة الموسيقى آنذاك، واكتشفوا أن قدراته أكبر من أن يكون طالبًا، فعينوه بالمعهد أستاذًا لآلة العود والأداء، ولكنه قدم استقالته بعد ثلاثة أعوام، وقرر دخول عالم التلحين.
ولأن الحديث عن السنباطي سيمتد مع حلقات أم كلثوم، فسنذكر فقط جزء من التحليل الفني للأستاذ الدكتور رءوف النفيس الذي ذكره الأستاذ صلاح الغزالي حرب في أحد مقالاته عن تلحين السنباطي لقصيدة أبو فراس الحمداني والذي استهوتني كتابته حينما كتب عن هذا المُلحن العظيم يقول: «أدرك السنباطى أنه سيلحن شعرا يتحدث فيه الشاعر إلى نفسه وبالتالى تكون اللهجة هادئة والحديث رصينا وجادا مشوبا بالحسرة والندم ومن هنا جاء اختيار المقام الموسيقى المناسب، وهو الكرد والقصيدة المغناة هى عشرة أبيات لم يستخدم السنباطى فيها الإيقاع إلا فى البيتين الخامس والسادس، وهى سابقة نادرة فى أغانى أم كلثوم وهى عبقرية السنباطى، ومن الملاحظات اللافتة عمل فواصل لحنية متكررة بين العبارات المغناة مثل (أما للهوى.. نهى.. عليك ولا أمر.. نعم.. أنا مشتاق) وهى طريقة تلحين لإنسان يكلم نفسه ويناجيها ثم كانت قمة الروعة والإبداع فى الإعادة بتلحين عبارة (نعم أنا مشتاق) وترديدها أربع مرات بألحان مختلفة بل إن المرتين الثالثة والرابعة جاءت من مقام غير الكرد وهو مقام الرصد (نعم أنا مشتاق وعندى لوعة ولكن مثلى)، ويبقى أن نعرف أن السنباطي استخدم البيانو ضمن الفرقة الموسيقية في تلحين هذه القصيدة.