ينفتح الشعر على التجربة الإنسانية اللانهائية، متحركًا في فضاء الخيال والدهشة، محاولا إعادة بناء الوجود عبر أصواته الحميمية القريبة من روح المتلقي، ويُعد الشعر هو الوسيلة الأكثر فاعلية في التعبير عن الأحلام والانفعالات والهواجس التي تجوب الوعي الإنساني واللاوعي أيضًا، وتتنوع روافد القصيدة من حيث الموضوع والشكل ليستمر العطاء الفني متجددا ودائما كما النهر.
تنشر "البوابة نيوز" عددا من القصائد الشعرية لمجموعة من الشعراء يوميا.
واليوم تنشر قصيدة بعنوان "الليلة الأخيرة" للشاعر العراقي الراحل بدر شاكر السياب، وذلك تزامنا مع ذكرى ميلاده، التي تحل اليوم 25 ديسمبر 2022.
وفي الصباح يا مدينة الضباب
والشمس أمنية مصدور تدير رأسها الثقيل
من خلال السحاب،
سيحمل المسافر العليل
ما ترك الداء له من جسمه المذاب،
ويهجر الدخان والحديد
ويهجر الأسفلت والحجر،
لعله يلمح في درام من نهر،
يلمح وجه الله فيها، وجهه الحديد
في عالم النقود والخمور والسهر.
رب صباح بعد شهر، بعدما الطيب
يراه من يعلم ماذا خبأ القدر؟
سيحمل الحقيبة الميئة
بألف ألف رائع عجيب،
بالحلي والحجر،
باللعب الخبيئة،
يفجأ غيلان بهاء، يا طول ما انتظر!
يا طول ما بكى ونام تملأ الدموع
برنة الأجراس، أو بصيحة الذئاب
عوالم الحلم له، وتنشر القلوع
يجوب فيها سندباد عالم الخطر،
هناك فارس النحاس يرقب العباب
ويشرع السهم ليرمي كل من عبر.
إن يكتب الله لي العود إلى العراق
فسوف ألثم الثرى، أعانق الشجر،
أصيح بالبشر:
"يا أرج الجنة، يا إخوة، يا رفاق،
ألحسن البصري جاب أرض واق واق،
ولندن الحديد والصخر،
فما رأى أحسن عيشا منه في العراق".
ما أطول الليل وأقسى مدية السهر،
صديئة تحز عيني إلى السحر!
وزوجتى لا تطفئ السراج: "قد يعود
في ظلمة الليل من السفر".
وتشعل النيران في موقدنا: "برود
هو المساء، وهو يهدي الدفء والسمر".
وتنطفئ مدفأتي، فأضرم اللهيب،
وأذكر العراق: ليت القمر الحبيب
من أفق العراق يرتمي علي: آه يا قمر!
أما لثمت وجه غيلان؟ أنا الغريب
يكفيه لو لثمت غيلان، أن انتثر
منك ضياء عبر شباك الأب الكئيب،
ومس منه الثغر والشعر:
أحسن منه أن غيلان شذى وطيب
من كفه اللينة انتشر
عابث شعري، صاح: "آه جاء أبي،
وعاد من مدينة الحجر"
وشد بالرداء.
ما أطول الليل وأقسى مدينة السهر
ومدينة النوم بلا قمر.