تحتفي الأوساط الثقافية بذكرى وفاة الشاعر العراقي بدر شاكر السياب، الذي تحل اليوم السبت، ويُعد واحدًا من أشهر شعراء الوطن العربي في القرن العشرين، فقد لعب دورًا بارزًا في نقل قريته الصغيرة بالعراق إلى العالمية لتصبح هذه القرية رمزا من رموز الأدب العربي المعاصر، بل وشيئا مألوفا بفهرس الأعلام والأمكنة لدى الباحثين والقراء.
امتلك السياب موهبة كتابة الشعر، فاستطاع بموهبته الشعرية أن ينتقل من حالة الفقر والحرمان، التي أسهمت في بناء شخصيته، إلى النهوض من هذا الواقع المظلم لمستقبل أكثر إشراقا، بل وعن نص شعري مختلف عن النموذج الشعري المألوف "الكلاسيكي".
ففي هذا التقرير نستعرض أبرز قصائد الشاعر الراحل بدر شاكر السياب، تزامنا مع ذكرى وفاته.
قالو لأيوب
قالوا لأيوب: "جفاك الإله"
فقال: "لا يجفو
من شد بالإيمان، لا قبضتاه
ترخى، ولا أجفة تغفو".
قالوا له: "والداء من ذا رماه
في جسمك الواهي ومن ثبته؟"
قال: هو التكفير عما جناه
قابيل والشاري سدى جنته
سيهزم الداء، غدا أغفو
ثم تفيق العين من غفوه
فأسحب الساق إلى خلوه،
أسأل فيها اللهَ أن يعفو
عكازتي في املاء أرميها
وأطرق الباب على أهلي،
إن فتحوا الباب فيا ويلي
من صرخة، من فرحة مست حوافيها
دوامة الحزن.. وأيوب ذاك؟
أم أن أمنية
يقذفها قلبي، فألفيها
ماثلة في ناظري حية؟
غيلان، يا غيلان، عانق أباك!
يا رب لا شكوى ولا من عتاب،
ألست أنت الصانع الجسما؟
فمن يلوم الزراع التما
من حوله الزرع، فشاء الخراب
لزهرة والماء للثانية؟
هيهات تشكو نفسي الراضية!
إني لأدري أن يوم الشفاء
يلمح في الغيب،
سينزع الأحزان من قلبي
وينزع الداء، فأرمي الدواء،
أرمي العصا، وأعدو إلى دارنا وأقطف الأزهار في دربي،
ألم منها باقة ناضره
أرفعها للزوجة الصابره
وبينها ما ظل من قلبي.
هرم المغني
بالأمس كنت إذا كتبت قصيدة فرح الدم
فأغمغم
وأهيم ما بين الجداول والأزاهر والنخيل
أشد بها، أترنم،
زاد لروحي منذ سقسقة الصباح إلى الأصيل
زاد، ولكن عنه قد صدفت، تجوع ولا تريد
ما ينعش الآمال فيها،
هي حشرجات الروح أكتبها قصائد لا أفيد
منها سوى الهزء المرير على ملامح قارئيها
هرم المغني، هد منه الداء فارتبك الغناء
بالأمس كان إذا ترنم يمسك الليل الطروب
بنجومه المترنحات فلا تخر على الدروب،
واليوم يهتف ألف آه لا يهز مع السماء
سعف النخيل، ولا يرجح زورق العرس المحلي
بعيون آرام ودفلي،
ودرابك ارتعدت حناجرها فأرعدت الهواء.
هرم المغني فاسمعوه برغم ذلك تسعدوه،
ولتوهموه بأن من أبد شباب من لحون،
وهوى ترقرق مقلتاه له وينفح منه فوه
هو مائت أفتبخلون
عليه حتى بالحطام من الأزاهر والغصون؟
أصغوا إليه لتسمعوه
يرثي الشباب ولا كلام سوى نشيج: "بالعيون
سلم علي إذا مررت"
أتي وسلم.. صدقوه!
هرم المغني فارحموه.
الليلة الأخيرة
وفي الصباح يا مدينة الضباب
والشمس أمنية مصدور تدير رأسها الثقيل
من خلال السحاب،
سيحمل المسافر العليل
ما ترك الداء له من جسمه المذاب،
ويهجر الدخان والحديد
ويهجر الأسفلت والحجر،
لعله يلمح في درام من نهر،
يلمح وجه الله فيها، وجهه الحديد
في عالم النقود والخمور والسهر.
رب صباح بعد شهر، بعدما الطيب
يراه من يعلم ماذا خبأ القدر؟
سيحمل الحقيبة الميئة
بألف ألف رائع عجيب،
بالحلي والحجر،
باللعب الخبيئة،
يفجأ غيلان بهاء، يا طول ما انتظر!
يا طول ما بكى ونام تملأ الدموع
برنة الأجراس، أو بصيحة الذئاب
عوالم الحلم له، وتنشر القلوع
يجوب فيها سندباد عالم الخطر،
هناك فارس النحاس يرقب العباب
ويشرع السهم ليرمي كل من عبر.
إن يكتب الله لي العود إلى العراق
فسوف ألثم الثرى، أعانق الشجر،
أصيح بالبشر:
"يا أرج الجنة، يا إخوة، يا رفاق،
ألحسن البصري جاب أرض واق واق،
ولندن الحديد والصخر،
فما رأى أحسن عيشا منه في العراق".
ما أطول الليل وأقسى مدية السهر،
صديئة تحز عيني إلى السحر!
وزوجتى لا تطفئ السراج: "قد يعود
في ظلمة الليل من السفر".
وتشعل النيران في موقدنا: "برود
هو المساء، وهو يهدي الدفء والسمر".
وتنطفئ مدفأتي، فأضرم اللهيب،
وأذكر العراق: ليت القمر الحبيب
من أفق العراق يرتمي علي: آه يا قمر!
أما لثمت وجه غيلان؟ أنا الغريب
يكفيه لو لثمت غيلان، أن انتثر
منك ضياء عبر شباك الأب الكئيب،
ومس منه الثغر والشعر:
أحسن منه أن غيلان شذى وطيب
من كفه اللينة انتشر
عابث شعري، صاح: "آه جاء أبي،
وعاد من مدينة الحجر"
وشد بالرداء.
ما أطول الليل وأقسى مدينة السهر
ومدينة النوم بلا قمر.