قال البطريرك الكردينال مار بشارة بطرس الرَّاعي بكركي، في عظته للميلاد المجيد بميلاد المسيح في مذود بيت لحم، أشرق على العالم فرح الرجاء، مبدّدًا ظلمة اليأس والقلق لدى الضعفاء، وظلمة الكبرياء والإستضعاف والظلم والإستبداد لدى الأقوياء، وظلمة الخطيئة والشرّ لدى المستكبرين على الله.
هذا الرجاء أعلنه ملائكة السماء ساعة ميلاد فادي الإنسان ومخلّص العالم، إذ أنشدوا "المجد لله في العلى، وعلى الأرض السلام، والرجاء الصالح لبني البشر" (لو 2: 14).
يسعدنا جدًّا أن نحتفل معًا ككلّ سنة بعيد الميلاد المجيد في هذا الكرسي البطريركيّ من خلال إحتفال روحيّ ينظّمه الرؤساء العامّون والإقليميّون والرئيسات العامّات والإقليميّات لجميع الرهبانيّات والجمعيّات الشاهدة والعاملة على أرض لبنان. ويطيب لي أن أشكركم على هذه المبادرة المُحبّة، وعلى كلمة المعايدة التي ألقتها باسمكم حضرة الأخت ماري أنطوانيت سعادة، الرئيسة العامّة لجمعيّة راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات. ويسعدني من جهتي أن أعرب لكم، باسم مجلس البطاركة والاساقفة الكاثوليك في لبنان والأسرة البطريركيّة، وإخواني السادة المطارنة والكهنة والمؤمنين القريبين والبعيدين، عن أخلص التهاني والتمنيات بالأعياد الميلاديّة والعام الجديد 2023. هذه التهاني والتمنيّات نتوجّه بها معكم إلى أبناء كنائسنا، إكليروسًا وعلمانيّين، في النطاق البطريركي وبلدان الإنتشار.
الرجاء الذي أنشده الملائكة ليلة ميلاد المخلّص، المسيح ، هو حاجة شعبنا ووطننا في لبنان، وأوطاننا في هذا الشرق، وفي عالم الإنتشار. فشعبنا يعيش المضايق من كلّ نوع، ماديّة ومعنويّة وروحيّة: جوع وفقر وحرمان، مضايقات وابتزاز واضطهاد؛ حزن وقلق وإهمال؛ إستضعاف وإقصاء كنفايات؛ فقدان الثقة والنقمة على المسؤولين السياسيّين ولا سيما أولئك الذين سلبوا أموالهم وجنى عمرهم، ورموا المسؤوليّة على غيرهم، والذين يحرمون دولتنا من رئيس من أجل مآرب شخصيّة وطائفيّة وخارجيّة.
كلّ هذا وسواه ممّا يعرفه الله بكامل تفاصيله، يدعونا إلى الصمود بالرجاء. فالمسيح هو رجاؤنا الذي لا يخيّب. وبهذه الصفة هو محور وجودنا وحياتنا. ويشكّل جوهر صلواتنا وليتورجيّاتنا. فكم نكرّر على سبيل المثل هذه الصلاة: "المجد لمراحمك أيّها المسيح وأنت علّة حياتنا، وأنت رجاؤنا العظيم!" بقوّة هذا الرجاء تقدّس القدّيسون والطوباويّون والأبرار، واستُشهد الشهداء. وعلى هذا الرجاء رقد المؤمنون. وفي المناسبة نذكر الطوباويّين الشهداء المسابكيّين الثلاثة الذين تفضّل قداسة البابا فرنسيس الأسبوع الماضي وقبل إلتماس سينودس كنيستنا المقدّس بإعلانهم قدّيسين على مذابح الكنيسة الجامعة.
الرجاء هبة من الله مع الإيمان والمحبّة. تدعى هذه الثلاثة "فضائل إلهيّة". لكنّ الرجاء، على ما يقول الكاتب الفرنسيّ شارل بيغي، هو الهبة الأحبّ على قلب الله، لأنّه الرابط بين الهبتين الأخريين: فالرجاء هو الثبات في الإيمان، ويستمدّ ثباته من محبّة الله. بهذا المعنى قال القدّيس أغسطينوس: "من يؤمن يرجو، ومن يرجو، يحبّ". فلا بدّ من التمييز بين الرجاء والآمال البشريّة.
فالرجاء يتناول كلّ ما له علاقة بحياة الإيمان على كلّ المستويات، ولا سيّما الروحيّة منها. فمن يضع رجاءه في الله، وفي كلّ ما يقوله الله ويرشد إليه، وإن بدا عصيًّا على الفهم، يبقى ثابتًا ولو خضع لامتحان قاسٍ، لأنّ الإمتحان يؤدّي إلى الثبات والتمسك بمواعيد الله. وهذا ما تجلّى في موقف الشهداء الذين آثروا الموت على الكفر بالمسيح، معتبرين أن الموت مدخل إلى الحياة، بينما الكفر بالمسيح يبعدهم عنه إلى الأبد. ولقد عبّر القدّيس بولس الرسول أفضل تعبير عن نوعيّة هذا الرجاء عندما قال: "نفخر بالرجاء لمجد الله. وعدا ذلك فإنّنا نفخر بشدائدنا لعلمنا أنّ الشدّة تلد الصبر، والصبر يلد الاختبار، والإختبار يلد الرجاء، والرجاء لا يخيب صاحبه، لأنّ محبّة الله أفيضت في قلوبنا بالروح القدس الذي وُهب لنا" (رو 5/ 2-5).
أمّا الآمال البشريّة فهي تنطلق من فكر الإنسان وحساباته والمشاريع التي يخطّط لها. ويمكن لهذه الآمال أن تتحقّق، إذا توفّرت لها الظروف الملائمة، كما يمكن أن تفشل لأسباب مرتبطة بالإنسان نفسه أو خارجة عن إرادته. في حال النجاح، يسعد الإنسان ويطمئن ويخطّط لمستقبل أفضل، غير عابئ بما يخبئ له هذا المستقبل الذي لا يستطيع التحكّم به.
أمّا في حال الفشل، فييأس الإنسان ويختبر الخيبة. وإذا ما تكرّر الفشل وتحكّم اليأس بصاحبه، فقد يؤدّي به إلى القعود عن العمل وإلى التقهقر والانتحار. (المجمع البطريركيّ المارونيّ: كنيسة الرجاء، ص 22).
ولئن خيّب السياسيّون آمال الشعب اللبنانيّ، فإنّ مخلّص العالم، يسوع المسيح، في ذكرى ميلاده، يثبتنا ويثبّت شعبنا على صخرة الرجاء بأنّه قادر على أن يخرجه من مآسيه ساعة يشاء وكيفما يشاء.