بعيدًا عن ضجيج الحياة وصخبها، فى عالمٍ خالٍ من الصراعات، جمع شتات قلبه، ولملم ما بعثرته الحياة من روحه، وعبأه مدادا لريشته، التى كانت عشقه الأول فكل لوحة يرسمها بمثابة حكاية كان هو بطلها، يمسح الفن عن روحه الغبار ويكسوها بالهدوء والطمأنينة، وأنت فى محله تشعر بأنك تجلس فى مملكة خيال.. لوحات تتبادل بعضها الحديث، إحداها يتشاجر والآخر يتفاهم، هذا الرجل هناك فى اللوحة البعيدة ينتظر حلمه، وذلك فى اللوحة الأخرى يودعه.
«كل طفل فنان، لكن المشكلة كيف تظل فنانا عندما تكبر، تجسد حياة «رأفت الكردي» إجابة لهذا السؤال، فهذا الشيخ الستيني، عشق الرسم وهو ابن التاسعة من عمره، بعد أن شجعه ناظر مدرسته وقدم له الدعم بعد اكتشاف موهبته، بأن عرض لوحاته فى الفصول الدراسية وأقام معرضا سنويا له حتى تخرج من الثانوية العامة، لم يتخل «عم رأفت» عن ريشته وألوانه قط، بل طور من رسوماته ليواكب التقدم الفنى مستخدما كل مشتقات الطبيعة فى عمليات الرسم، ناهيك عن مواهبه الخاصة فى النحت التى جعلت المحال التجارية الكبرى تتهافت على منحوتاته.
لم يظفر بشهرة واسعة، لكن دكانة الأدوات المكتبية لوالده بـ«السيدة زينيب» تحولت لمعرض فني، يحج إليه المريدون من كل صوب وحدب، وعلى الرغم من صغر مساحته إلا أنك تشعر باتساعه، ففى كل «سم» من حوائط «عم رأفت» تجد تجسيدا لحقبة من التاريخ أكثر من ٤٠ عامًا هناك منقوشة على الجدران، الورق الأصفر المستخدم فى الرسم قديما بحالته حتى الآن، التراث الفنى السينمائي، فنانو الزمن الجميل.
يروى «عم رأفت»: «بعد ما انتهيت من الثانوية العامة دخلت الجيش وبعدين اشتغلت فى فنادق وأماكن كتير لكن وأنا كنت شغال فى أى شغلانة كان ذهنى متعلقا بالرسم، كان كل وقت فراغى كنت بقضيه فى رسم اللوحات عندى فى المخزن من ٢٠٠-٣٠٠ لوحة اتجوزت وخلفت بنت وولد والبنت هى اللى متعلقة بالرسم وبلوحاتى وممكن استأمنها عليها بعد موتي».
رسوماته تحتوى على كافة عناصر الطبيعة من الماء والبلاستيك والخشب والرمل والخرز والألوان والأوراق وكافة مشتقات التربة، على واجهة المحل تظهر لوحه لأحد القطارات التى تسير وهناك شخص نائم أمام القطار، تتميز هذه اللوحة باشتمالها على كافة العناصر السابقة، كل شخص يرى اللوحة بحسب روايته وخياله الخاص، فهناك من يراها شخصا يرغب فى الانتحار، لكن فى الحقيقة هو شخص يداعب سائق القطار حتى يصل إليه يقوم وينجو مسرعًا، كما فسر «عم رأفت».
وعن أشهر لوحاته الفنية قال: «رسمت صدام حسين وأنور السادات وأم كلثوم وإسماعيل ياسين وشادية وفايزة أحمد، وعندى لوحات رسمتها من ٢٥ سنة ومحتفظ بها وعلشان أحتفظ بشكل اللوحة الجمالى القديم رشيتها بـ «إسبرى حفظ» وده بيمنع تعرضها لأى تغيرات مناخية».
وجسد عم رأفت لوحات فنية تعود لمصر القديمة، فهناك لوحة لمكوجى حرق الجلباب الخاص بأحد الجزارين مما تسببت فى «عركة» تدخل فيها أهل الشارع لفضها، ولوحة أخرى لبهلوان يقوم بترويض عدد من الحيوانات المختلفة تماما عن بعض مثل كلب وقطة وفأر، كما تظهر لوحة أخرى لشكل البيشة أو النقاب قديما وهناك شخص نائم أمام قضيب القطار.
وعن المعارض الفنية التى يقدمها الشيخ الستينى يقول: «أقيم معارضى بشكل خاص وأذهب أمام كلية الفنون التطبيقية وأعرض لوحاتى حتى أظهر للعالم وأقول له أنا موجود، كما أذهب بالقرب من سور الأزبكية وأعرض لوحاتي»، وأغرب رسوماته كانت على الرمل داخل زجاجات قطرها لا يتعدى المليمترات.