لم يكن اعتداء جماعات الإسلام السياسي مقصورا على المناطق التي سيطروا عليها في ظل الانفلات الأمني والفوضى في بلاد مثل سوريا وليبيا والعراق ودول أفريقية فقيرة، بل امتد الاعتداء ليشمل الفكر واللغة العربية التي كانت ميدانا للتنافس الجمالي بين الشعراء والنثريين العرب قبل بعثة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
«البوابة نيوز» في اليوم العالمي للغة العربية، تلقي الضوء على جناية الجماعات الإرهابية والمتطرفة على اللغة العربية وتحويلها من لغة للفن والذوق الرفيع والجمال وعلوم الطبيعة والفلسفة والفلك والطب إلى لغة تتسم بعبارات مسكوكة للعنف والقتل والذبح، وتحويلها إلى أداة في التحريض وإثارة عواطف الناس بالنبرات الخطابية، لتصبح لغة متسمة بميراث المتطرفين والإرهاب، حتى باتت أشهر المؤلفات في التنظير للتطرف صادرة باللغة العربية.
اللغة مقياس حضارة الأمم ونهضتها
أكد الناقد الأدبي والروائي محمد سليم شوشة، أستاذ الأدب العربي، أن اللغة بالأساس معادل للوجود الإنساني، وتطورها عند أي أمة دليل على التطور الحضاري والفكري، اللغة وعاء للفكر وللفن والخيال والابتكار العلمي، واتساع لغة أمة مقياس لتحضرها، والعكس صحيح، ولغة الجماعات المتطرفة هي بالأساس لغة التقييد والمنع والتحريم والشطب والمحاصرة.
وأضاف سليم شوشة، في تصريحات خاصة لـ«البوابة نيوز»، أنه يمكن رصد أثر الإرهاب والرجعية في اللغة، لأن الأخيرة أشبه بحال الدم البشري إذا ما حللناه عثرنا فيه على محددات الحال الصحية أو المرضية، فإذا أردنا أن نقيس تطور أمة ومقدار ما حققت وتعيش من الرقي فلن يكون هناك مقياس أكثر شمولية من اللغة بانتشارها وبمقاييس معينة، مثل قدر تفاعلها مع الفنون والآداب واستجابتها لمتطلبات الإنتاج فيهما، وكذلك قدر استجابة اللغة لتطورات العلم في الفروع المختلفة، وكذلك انفتاحها على الآخر وقابليتها للأخذ من اللغات والحضارات الأخرى.
وتابع، أنه في عالم الجماعات أو ما يمكن تسميته بعالم الظلام والعدمية تبدو اللغة محاصرة، فلا تجد أمامها من سبيل غير مفردات المنع والتحريم والتعذيب والقتل ومسارات تداولية معينة ترتبط بالكراهية والاحتراب والصراع مع الآخر بكل أشكاله وصوره، سواء الآخر المختلف عنهم داخل العالم العربي والإسلامي أو الآخر في حدود وأوطان وثقافات أخرى، وهكذا فإن مثل هذا النموذج الكابوسي الذي يصطنعه الجماعات المتطرفة والإرهابية مثل داعش مثلًا أو تنظيم القاعدة أو غيرها هو بالأساس نموذج قاتل للغة، يدمر اللغة العربية ويفصلها عن الواقع ويجعلها محصورة في زوايا وأركان بعينها من الحياة.
أسوار الماضى
ويعتقد الناقد الأدبي، أنه بدلا من أن تتمدد اللغة بتمدد الوجود فتشمل علوم الفلك والفضاء وعلوم الطب ومصطلحات الفلسفة والمخترعات وتأخذ من الإنجليزية وتفيد من الإبداع القصصي والروائي ومن لغة السينما وعلاماتها وتفيد من عالم الميديا والتكنولوجيا ومواقع التواصل الاجتماعي وتنمو اللغة بأدب الخيال العلمي، بدلًا من كل هذا تبقى سجينة ومحصورة في لغة الغزوات والحرب بصورها القديمة، تبقى محصورة وسجينة في أسوار الماضي الشاهقة، فلا تنفتح على الحاضر أو المستقبل، ولنا أن نتأمل كيف تبدو هذه الجماعات الظلامية أقرب إلى حالة من الفنتازيا الغامضة، ولكنها مع الأسف فنتازيا ليست ممتعة أو لها مقومات جمالية، بل فنتازيا كابوسية، لا تنتمي للحياة أو لحبها والتأقلم معها، بل تعيش حالا من الاغتراب الوجودي وتنفصل عن الواقع بحقيقته ومقوماته.
ويرى «شوشة» أنه لو قامت بالفعل دراسات على تحليل لغة خطاب هذه الجماعات فسنكتشف قدر محدودية هذه اللغة التي لا تنتج غير مفردات العنف والقتل والكراهية والبدائية والارتداد إلى السمت الحيواني أو الطابع الغريزي في الإنسان، دراسة سيميولوجية ثقافية تحلل خطاب هذه الجماعات أو المتوافر من مواد لغتهم أظنها ستكون كاشفة عن قدر الفقر في التخييل وقدر مجافاة الإبداع والابتكار والتجديد وهي كلها ضروريات توسع حدود العالم وأبعاده، فاللغة قادرة دائمًا على أن تصنع عالمًا كاملًا وتشكل وتصوغ عقولًا، وإذا كان الغالب علينا الابتكار فيها فإن هذا الأمر يدعم التنمية ويدعم مظاهر التحضر والرقي والتقدم، ولذلك لم يكن غريبًا على الرئيس عبدالفتاح السيسي بعبقريته وإلهامه الكبير أن يجعل العام قبل الماضي هو عام اللغة العربية ذلك لأنه يدرك هذه المسارات التي تصبح اللغة عبرها فاعلة في حياتنا المادية والملموسة وتصبح ذات دور حاسم وكبير في إنتاج الحضارة ودعم التقدم.