قبل نحو شهرين، أعلن البيت الأبيض استراتيجيته للأمن القومي، والتي أشار خلالها إلى مساع لـ"احتواء صعود الصين"، وأهمية العمل مع الحلفاء للتصدي للتحديات التي تواجه الدول الديمقراطية.
وتنظر واشنطن إلى الصين –وفقا للاستراتيجية- باعتبارها "المنافس الوحيد الذي لديه نية لإعادة تشكيل النظام الدولي و(تملك) بشكل متزايد القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية لتحقيق هذا الهدف". وأكدت واشنطن أنها "ستعطي الأولوية للحفاظ على أفضلية تنافسية دائمة على جمهورية الصين الشعبية.
غير أن هذه الاستراتيجية وما تحمله من دلالات واضحة على مساع قوية لواشنطن لاحتواء صعود الصين، يجب ألا تكون محركا للإدارة الأمريكية لإرغام أوروبا على الاختيار بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين.
وذكرت دورية "ذا ديبلومات" الأمريكية أن وزير الخارجية الأمريكية "أنتوني بلينكين" طمأن الأوروبيين خلال رحلته الأولى إلى أوروبا في مارس 2021 بأن "الولايات المتحدة لن تجبر حلفائها على الاختيار بينها وبين الصين. وعلى الرغم أن هذه ماتزال السياسة المعلنة للولايات المتحدة، إلا أن تصرفات واشنطن لا تتوافق مع ذلك، وهو الأمر الذي وصفته الدورية بـ "الخطأ"، حيث ترى أنه للنجاح في منافسة مع الصين،
يجب على واشنطن التركيز على تنسيق السياسات مع أوروبا، بدلا من الإصرار على تبنى حلفائها عبر الأطلسي سياسات متطابقة.
وأوضحت "ذا ديبلومات" أنه رغم طمأنة بلينكين، إلا أن الولايات المتحدة أصبحت أكثر حزما في الضغط على أوروبا لتبني نهجها تجاه الصين. فعلى سبيل المثال، فرضت الولايات المتحدة في 7 أكتوبر الماضي قيودا على أشباه الموصلات إلى الصين. وحاولت واشنطن الاتفاق مع حلفائها خاصة هولندا واليابان على فرض قيود مماثلة، إلا أنهم فشلوا في النهاية في التوصل إلى اتفاق. وتشير تقارير إلى أن الولايات المتحدة مارست ضغوطا كبيرة على هولندا لتبني قيود تصل إلى حد منع تصدير المعدات التي تحتوي حتى على كميات ضئيلة من التكنولوجيا الأمريكية الخاصة بأشباه الموصلات إلى الصين. ويبدو أن هذه الضغوط لم تذهب سدى، حيث أشارت هولندا واليابان مؤخرا إلى أنه من المحتمل أن تفرضا بعض القيود المماثلة لتلك التي فرضتها واشنطن على بكين.
ورغم ما أعلنته هولندا واليابان، إلا أنه يجب إدراك أن الدبلوماسية القسرية للولايات المتحدة سيكون –وفقا للدورية الأمريكية- لها ثمن، حيث تهدد بتصعيد الاحتكاكات وتقويض الثقة في العلاقات عبر الأطلسي.
وتعد قضية قيود الرقائق مجرد مثال واحد من العديد من الأمثلة التي تسلط الضوء على انفصال أوسع بين مدى استعداد أوروبا من ناحية والولايات المتحدة من ناحية أخرى للذهاب في منافساتهما مع الصين. وبطبيعة الحال، وكما أسلفنا فإن هذا الانفصال لا يقتصر على المنافسة التكنولوجية، حيث ترى واشنطن أن بكين هي "المنافس الوحيد الذي لديه نية لإعادة تشكيل النظام الدولي و(تملك) بشكل متزايد القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية لتحقيق هذا الهدف"، لذا، فإن واشنطن ستعمل دائما على الحيلولة دون تحقيق ذلك.
وبالعودة إلى أوروبا، وقبل زيارته الأخيرة إلى الصين، شدد المستشار الألماني أولاف شولتز على أن الصين ستظل شريكا تجاريا مهما لألمانيا وأوروبا، وأنه لا يريد الانفصال عنها. كما أن شولتز دافع عن اتفاق يسمح لشركة الشحن الصينية COSCO بشراء حصة في ميناء هامبورج. وبالمثل، دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى وقف ما أسماه بـ "المواجهة" بين الولايات المتحدة والصين، واصفا الأمر بأنه "مخاطرة كبرى وتحد كبير". كما أن الاتحاد الأوروبي ككيان مايزال يحتفظ بنهج "الثالوث المقدس" في تعامله مع الصين، حيث ينظر إلى الصين كشريك، ومنافس اقتصادي، ومنافس منهجي يروج لنماذج بديلة للحكم، وهو النهج الذي يتناقض مع استراتيجية الولايات المتحدة ثلاثية الأبعاد بشأن الصين المتمثلة في: الاستثمار والاصطفاف والمنافسة.
وترى "ذا ديبلومات" أن واشنطن تخاطر بالفشل في تنفيذ ركيزة أساسية لهذه الاستراتيجية (الاصطفاف) عبر عدم مواءمة جهودها مع شبكة حلفائها وشركائها. وإذا استمرت الولايات المتحدة في إرغام الدول الأوروبية على اختيار جانب ما، فإن واشنطن تخاطر بفقدان شركائها عبر المحيط الأطلسي. لذا، وانطلاقا من استحالة تطابق السياسات الأمريكية الأوروبية حيال الصين، فيجب –وفقا للدورية- أن يركز الشركاء عبر الأطلسي على التنسيق والمواءمة في القضايا الأكثر أهمية، والتركيز على مجالات محددة للنجاح في المنافسة وحيث يكون التوافق بين الجانبين الأمريكي والأوروبي ممكنا، سيما تلك ذات المخاطر العالية، مثل تأمين البنية التحتية الحيوية والرقمية والأمن السيبراني.
كما يجب على الولايات المتحدة وأوروبا التركيز في هذا الصدد على المجالات التي أصبحت جاهزة للتعاون، ومن بينها: تعزيز مرونة سلاسل التوريد. فقد كشفت الحرب في أوكرانيا وجائحة "كوفيد-19" أهمية مرونة سلاسل التوريد والمخاطر المرتبطة بالاعتماد الاستراتيجي على أنظمة بعينها. وبالفعل، قطعت الولايات المتحدة وأوروبا خطوات واسعة في تعزيز المرونة في سلاسل توريد أشباه الموصلات من خلال الاستثمارات التاريخية التي حشدها قانون CHIPS الأمريكي وقانون العلوم وقانون الرقائق الأوروبي. ومع ذلك، سيكون من الضروري تنسيق هذه الاستثمارات جنبا إلى جنب مع الدول الأخرى المنتجة لأشباه الموصلات في المحيطين الهندي والهادئ؛ لضمان عدم وجود ثغرات أو مشاكل مماثلة للاعتماد على منطقة جغرافية واحدة.
وأكدت الدورية الأمريكية أهمية أن تكون التكنولوجيا الخضراء هي المرحلة التالية للتعاون بين أوروبا وأمريكا، مشيرة إلى أنه لحدوث التحول الأخضر، يجب على الولايات المتحدة وأوروبا الاعتماد حاليا على الواردات من الصين، بما في ذلك بطاريات الليثيوم والمعادن الأرضية النادرة. ويجب على الشركاء عبر الأطلسي تكرار نموذج التقدم المحرز فيما يتعلق بسلاسل توريد أشباه الموصلات وتقييم نقاط الضعف في سلاسل التكنولوجيا الخضراء للعمل على تقليل الاعتماد على الصين في هذا المجال مستقبلا.
ومما سبق، يجب على واشنطن أن تحرص على تعزيز التعاون والتنسيق مع حلفائها، وليس تهديدهم لفشلهم في مطابقة السياسات الأمريكية تجاه الصين، حيث إن التعاون هو شرط مسبق للنجاح وليس العكس، ويجب على واشنطن أن تبدأ في التصرف على هذا النحو.