يعد نجيب محفوظ، قيمة تاريخية وفنية في مسيرة السرد العربي، يتجاوز عبرها حد كونه أحد أهم المؤسسين الحقيقيين لفن الرواية، إلى أن يصبح من أصحاب المشاريع الإبداعية الكبرى، القادرة- دوما- على اجتذاب جمهرة من المتلقين (قراءً وكتابا على حد سواء)، وربما مثّل التجديد هاجسا ملحا لدى "نجيب محفوظ" طوال مسيرته الإبداعية بمراحلها الفنية المختلفة، وتحولاتها السردية المتلاحقة، حيث يمكننا القول، وبوثوق شديد: إن التجديد في نص (نجيب محفوظ) كان استجابة جمالية لممارسة إبداعية تنحو- وباستمرار- تجاه فعلي "المجاوزة"، و"التخطي"، لا "السكونية"، و"الثبات".
وربما بدا السوال المركزي : "لماذا يبقى نجيب محفوظ في الذاكرة الأدبية"؟ نقطة انطلاق لمحاولة رصد الملامح الفكرية والجمالية التي تميز عالمه الإبداعي، هذا العالم المتسم بغناه الفكري والروحي، وقدرته الفائقة على الانتصار للجدارة الإنسانية، حيث يصبح الانحياز للبسطاء والمهمشين هاجسا مركزيا في نصوصه السردية المختلفة، لقد فطن "محفوظ" إلى أنه لا انطلاق من فراغ، وأن العمل الأدبي يظل موصولا بسياقاته السياسية والثقافية، فبات نصه كشفا أصيلا عن ميكانيزمات التحول في المجتمع من جهة، وعن دواخل النفس البشرية، وتعقيداتها المختلفة من جهة ثانية.
إن الانشغال بأسئلة النص الأدبي/أسئلة الكتابة بدا شاغلا أساسيا لنجيب محفوظ، فيه يكمن فعل بقائه وفرادته في الآن نفسه، وقد تجلى هذا الانشغال بأسئلة النص على مستويات متعددة، بدءا من ماهية النظرة ذات الطبيعة الديناميكية للأدب، والتي لا تراه نقلا مرآويا للواقع، أو انعكاسا آليا لما يدور في المجتمع؛ ولذا فثمة فارق دقيق بين رصد محفوظ لتحولات المجتمع المصري بمراحله المتعاقبة وحقبه الزمنية المختلفة، رصدا يتكئ على السرد التحليلي- بالأساس-، وأن يصبح هذا الرصد محض نقل لهذا الواقع بمساراته المختلفة، فضلا- وهذا هو الأهم- عن صدور نجيب محفوظ (ابن الحقبة الليبرالية) عن رؤية للعالم ذات طبيعة منفتحة، وبما أسهم- وبشكل دقيق- في تعدد وجهات النظر تجاه العالم والأشياء (على المستوى الموضوعي)، وتغليب المنطق الديمقراطي للسرد (على المستوى الفني).
بدت أيضا تطورات الرواية وتحولاتها لدى نجيب محفوظ استجابة جمالية لعالم يتغير- بالأساس-، ولواقع يتعقد ويتشابك، ولفن له اشتراطاته الجمالية اللانهائية، والقابلة للاستعارة من أجناس أدبية أخرى بعض آلياتها وتقنياتها، ومن ثم رأينا محفوظ ماراً بذكاء على مناحي مختلفة للرواية، يتعاطى فيها مع التاريخ تارة، مثلما رأينا في بداياته : (عبث الأقدار / رادوبيس / كفاح طيبة)، أويرصد الواقع الاجتماعي ويحلله تارة أخرى، مثل: (القاهرةالجديدة/ خان الخليلي / زقاق المدق/ / بداية ونهاية)، أويشتبك مع الواقع السياسي ويعري تناقضاته تارة ثالثة مثل : (اللص والكلاب / ثرثرة فوق النيل / ميرامار)، أو يؤسطر العالم متكئا على البناء الأليجوري، كما في (أولاد حارتنا)، خارجا بالنص إلى فضاءات دلالية أكثر رحابة، أو ينحو تجاه مساحات أشد من الفانتازيا، وإفساح طاقات التخييل كما في (رحلة ابن فطومة) و(ليالي ألف ليلة)، وفي كُل يبدو نجيب محفوظ قابضا على أسئلة الكتابة وجمرها المتقد، مشدوها إلى منح النص الروائي بعدا تجريبيا جديدا، وبما يتسق مع طبيعة نظرته للكتابة بوصفها ابنة التراكم المعرفي والجمالي، ومن ثم فلا رواية نابتة في الفراغ، ولا نص حقيقي دون أن يكون هاجس التجديد شاغلا له، وعبر هذا الفهم بدت قدرات محفوظ في التعاطي مع الواقع بوصفه مادة خاما، يحيلها إلى بنية سردية متجانسة ومتناغمة في آن.
ففي روايته (اللص والكلاب) ينطلق من حادثة السفاح السكندري الشهير (محمود أمين سليمان)، إلى عوالم تسع اللص المطارد (سعيد مهران) والمثقف الانتهازي (رءوف علوان)، وفي (ميرامار) يتجلى هاجس التجديد الشكلي عبر استخدام رواة متعددين للحدث السردي ذاته ، في استعمال جمالي لرواية الأصوات، وبما اتفق معه من وعي بلغات الشخوص المختلفين داخل الرواية.
إن مناط الجدارة في نص نجيب محفوظ، والذي أسهم في منحه قدرة البقاء، يكمن أيضا في الانشغال بالوتر الإنساني، ومحاولة الوصول إلى ذلك الجوهر الثري للإنسان، ومن ثم فلا أحكام سابقة التجهيز، ولا اصطناع لشخوص، أو صدور إبداعي عن رؤى معدة سلفا، فالشخوص لهم حركتهم الديناميكية في الزمان والمكان الروائيين، ف ( نور/فتاة الليل) في (اللص والكلاب) تأوي البطل المطارد (سعيد مهران) وتصبح مرفأ الامان المؤقت بالنسبة له، و(الشيخ درويش) يجمع بين المحنة الشخصية، والهزل، والسخرية المرة. فبنية الشخصية الروائية لدى محفوظ تتجاوز ما يعرف بقوى الشخصية الثلاث (الجسدية/ النفسية/ الاجتماعية)، إلى أفق دلالي وسيع يقف خلف البناء الصارم للشخصية ، تستشعر فيه رؤية فلسفية أكثر عمقا، ويعمل محفوظ على هذا الأفق بدءا من اسم الشخصية، والمدلول الذي يشير إليه، كأن يصبح مثلاً اسم بطله المطارد في (اللص والكلاب) هو (سعيد مهران) على الرغم من كم التعاسات التي عاناها!! وذلك في توظيف جيد لما يعرف ب "الدلالة الضدية"، أو أن يصبح اسم الشخصية المركزية في (خان الخليلي) (أحمد عاكف) المحاصر في جانب أحادي من المعرفة "تراثي الطابع"، وذلك في مقابل (أحمد راشد) المنفتح على عالم أكثر اتساعا، ولتصبح المقابلة بين الاسمين/ الشخصيتين علامة دالة على عالمين متمايزين.
وقد تشكلت فرادة نص نجيب محفوظ أيضا من خلال التعاطي المغاير مع المرتكزات التقليدية للنص الروائي، مثل (المكان/ الزمان)، حيث يتعاطى معهما محفوظ من زوايا مختلفة، فبالنسبة للمكان، ففضلاً عن حضور واعد له في نص نجيب محفوظ، هذا الحضور الذي يتجلى بدءا من عناوين نصوصه الحاملة لأسماء أمكنة حقيقية، وبما يسهم في منح الحدث السردي مزيدا من الواقعية، من قبيل: (خان الخليلي/ زقاق المدق/ بين القصرين/ ميرامار).
وعلى الرغم من شيوع التصورات التي ترى أن الكتابة عن الأمكنة بها قدر عارم من التخطيط المسبق، فضلاً عن سهولتها النسبية إلى حد ما، إلا أن هذا التصور النمطي قاومه نجيب محفوظ في نصوصه الروائية، وهذا ما يؤكده الاستقراء الدقيق لها، بدءا من توظيف العنوان/ المكان ليصبح بمثابة البنية الدالة القادرة على تأدية وظيفة داخل المسار السردي للرواية، ففي رواية( زقاق المدق) يبدو المكان قادرا - بمحدوديته وحشر الناس بداخله - على أن يخلق سياقا نفسيا له طبيعته الضاغطة على نفسية (حميدة) بطلة الرواية، و(ميرامار/ البنسيون) علامة دالة على مكان حاوٍ لبشر متنوعين، لا يسعهم سوى فندق قديم في مدينة كوزموبوليتانية مثل (الأسكندرية). إن المكان في روايات محفوظ إذن لم يكن فضاءً ماديا فحسب ، ولكنه- وبالأساس- سياق نفسي يحوي دواخل النفس البشرية، وتبدل أحوالها داخله.
ويعد سؤال "الزمن" سؤالا مركزيا في أعمال نجيب محفوظ، بوصفه خصيصة جمالية، وفكرية عنده، تعبر عن رؤيته للعالم، هذا الذي يراه موصولا بأزمنة عدة تتصل بالوجود، وبالنفس البشرية، وبالراهن المعيش، مثلما تنفتح - أيضا- على التاريخ، معيدة قراءته، منحازة- في هذا كله- إلى البسطاء، والمهمشين، وإلى كتابة تاريخ الجماعة الشعبية، حاملة- وكما في "أصداء السيرة الذاتية" نفساً صوفياً رحبا، يسع العالم، ويحيل إليه في الآن نفسه.
وبعد.. لقد بدت الكتابة عند ( نجيب محفوظ ) فضاء للوجود البشري ذاته، وعلامة على ذلك التحول الذي يصيب الأفراد والأمم، وشاهدا على الثابت والمتغير من الأشياء، لنصبح – وباختصار- أمام منجز سردي يستمد خصوصيته من انتصاره للجدارة الإنسانية في أشد تمثلاتها خلقا، وابتكارا، وفي انحيازه للجمالي والتقني، عبر لعب فني دال، يعيد النفاذ إلى جوهر االعالم والأشياء، متكئا في ذلك كله على صيغة إبداعية تكتنز داخلها طبقات من المعنى، كما تفتح أفقا واعدا للقراءة، والتأويل.