رأت دورية "فورين بوليسي" الأمريكية أن إعادة التسليح التدريجي لأوروبا، والذي تسارعت وتيرته بسبب الحرب في أوكرانيا، يعكس إدراك القادة العسكريين في القارة العجوز أن اندلاع صراعات عسكرية كبرى أصبح احتمالا حقيقيا تواجهه أوروبا، مشيرة إلى أنه سيكون من غير المنصف القول إن القادة الأوروبيين غير واقعيين بشأن التهديدات التي يواجهونها، غير أنهم ارتكبوا خطأ بالاعتقاد أن التسليح وحده كاف للتعاطي مع هذه التهديدات.
وأوضحت الدورية الأمريكية أن التسليح ليس سوى جانب واحد من مشكلة أوروبا، حيث لدى حلف شمال الأطلسي (ناتو) بالفعل وسائل عسكرية تحت تصرفه تفوق بكثير تلك بحوزة روسيا، لكن ذلك لم يردع أو يمنع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من تنفيذ خطته وشن عمليات عسكرية ضد أوكرانيا.
وبحسب "فورين بوليسي"، يعود إقدام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على تنفيذ خطته إلى إدراكه الجيد أن أوروبا، ورغم قدراتها التسليحية الجيدة، إلا أنها ليست مستعدة للتعامل مع إمكانية نشوب صراع مفتوح، وأن الأسلحة التي تمتلكها أوروبا لا يمكن أن تشكل تهديدا لأي شخص طالما أن المجتمعات الديمقراطية في القارة الأوروبية ليس لديها النية لإبراز القدرة أو التصميم على استخدامها.
واستدعت المجلة الأمريكية محاضرة ألقاها الفيلسوف وعالم الاجتماع السياسي الفرنسي "ريمون آرون" قبل عشرات السنين، قال خلالها إنه "أمر غريب أن نعتقد أنه يمكن مقاومة المدافع بالزُبد، أو بالراحة عند ضرورة بذل الجهد، إن أكبر نقاط ضعف الديمقراطيات هو الدفع بروح التسوية إلى أبعد مما ينبغي.. أي الاعتقاد بأن كل شئ يمكن حله عن طريق حل وسط، في كل مرة كانت الديمقراطيات تواجه أنظمة استبدادية، كانوا يعتقدون دائما أن الرجال المسؤولين عقلانيون بما يكفي لتفضيل تسوية جيدة على حرب سيئة".
العنف والمصالح الأوروبية:
وترى "فورين بوليسي" أنه يجب على الأوروبيين تغيير وجهة نظرهم حيال رفض إمكانية اعتبار العنف وسيلة مشروعة لتأمين أنواع معينة من المصالح، حيث إنهم يرون أن الصراع ليس سوى نتاج لأسباب عرضية -سوء التواصل على سبيل المثال- ويمكن معالجتها.
وأضافت: أنه بلا شك، استندت النجاحات السياسية والاقتصادية لأوروبا، إلى أهمية العولمة وتجنب العنف أو الحروب من أجل تحقيق التكامل، وربما يكون ذلك هو أحد الأسباب التي تجعل إيقاظ أوروبا من سباتها السياسي أمرا صعبا. ويبدو أن التطور الاقتصادي لأوروبا جعلها تتصور أن القوة العسكرية لا طائل من ورائها وغير أخلاقية، وأن التنمية الاقتصادية من شأنها أن تحدث تأثيرات في كل مكان، وأن الصين وروسيا ستنضم قريبا، كل في وتيرته الخاصة، إلى مجتمع المجتمعات الليبرالية والديمقراطية سيما وأن اقتصاداتها أصبحت أكثر اندماجا في عالم معولم (العولمة)، لكن الواقع يشير إلى أن الأوروبيين لن يكونوا في وضع يسمح لهم بفهم الحرب، ولن يتمكنوا من مواجهتها، طالما استمروا في التمسك بهذه الرؤية.
وأشارت إلى أنه لعقود من الزمان، كان الأوروبيون قادرين على تجاهل العواقب العملية لتصرفهم السلمي بفضل الحماية التي توفرها الولايات المتحدة، ولكن يجب على أوروبا أن تدرك أن استمرار هذا الوضع غير مضمون.
ولفتت المجلة الأمريكية إلى وجود اختلاف مهم بين أوروبا والعالم من حولها، وهو أنه في الديمقراطيات، لا تتمثل المعضلة في وفرة الوسائل والقدرات المناسبة للتعامل مع تهديد حتمي، ولكن في كيفية جعل المواطنين يدركون الظروف والمخاطر التي تجعل استخدام هذه الوسائل (القدرات العسكرية) ضرورية ومشروعة. بينما الواقع يشير إلى أن دولة مثل روسيا يمكن للرئيس الروسي اتخاذ قرار بالحرب دون دعم صريح من شعبه، وأن كل ما يحتاجه هو جيش جاهز للعمل وفقا لكلمته.
وتابعت "فورين بوليسي": أن المجتمعات السياسية التي تدين منذ البداية استخدام القوة سيكون من الصعب عليها أن تحدد الظروف التي قد تتطلب والمبادئ التي قد تبرر الدخول في صراع عسكري. لذا، فإن إعادة تسليح أوروبا لا يمكن أن تأتي من إدراك صانعي القرار لضرورة تكريس المزيد من الموارد للقوات المسلحة الأوروبية فقط، بل يجب أيضا خلق حالة من الحوار الجاد مع المواطنين العاديين لإدراك هذه المعضلة، إذا أرادوا الحفاظ على المجتمعات الحرة التي يعيشون فيها.
وترى المجلة الأمريكية أنه يجب على أوروبا تعديل طريقة تفكيرها المرتبطة بغايات الديمقراطية والنزعات الإنسانية، والتحرر من الأفكار التي ترى أن الصراع "شر كبير" حتى لا تكون القارة الأوروبية عرضة لخطر أن تصبح رهينة لإرادة أجنبية وعدائية.