بالتزامن مع عودة حفل تسليم جوائز نوبل، والذي انقطع لعامين بسبب الإجراءات الاحترازية التي اتبعها العالم للتصدي لجائحة كورونا، تحل اليوم ذكرى ميلاد الأديب العالمي نجيب محفوظ، المولود في 11 ديسمبر عام 1911، وصار أحد آباء الرواية العربية في التاريخ الحديث، والذي حصل جائزة نوبل في الأدب، ليكون أول عربي يحصل عليها.
في السطور التالية، تحتفي «البوابة نيوز» بذكرى أديب نوبل الراحل. ما الذي يجعل الأجيال الجديدة تشتبك مع شخصياته، وكيف رآه محبوه. وكيف ظهر الصحفيون كشخصيات "كريهة" في أعماله.
«ترندات محفوظ» تتصدر مواقع التواصل
لا يزال الروائى العظيم نجيب محفوظ، يتصدر من وقت لآخر، الأخبار على مواقع التواصل الاجتماعى. إمّا عن طريق لقطات وتعليقات ساخرة، أو نشر مقطع ما من إحدى رواياته، أو تشبيه إحدى الشخصيات البارزة فى أحد الأحداث الجارية بواحد من شخصيات رواياته. والتى مازالت مؤثرة، وكانت فى وقتها «ترند» -بلغة «السوشيال ميديا»- يتحدث عنهم الجميع، ولا يزالون هكذا حتى الآن.
رءوف علوان.. مثال الانتهازي
تظّل شخصية الصحفى «رءوف علوان» فى رواية محفوظ «اللص والكلاب»، الصادرة عام ١٩٦١- والتى تحولت بعدها بعام إلى الفيلم الشهير الذى أخرجه كمال الشيخ، وأدى فيه دوره ببراعة الفنان الراحل كمال الشناوي- مثالًا واضحًا ضربه نجيب محفوظ للانتهازية عبر العصور، والمُتاجرة بكل شيء فى سبيل الوصول إلى المنصب والثراء.
كان رءوف علوان رغم بدايته الثورية محررًا بمجلة النذير، مجلة منزوية فى شارع محمد على، والتى كانت صوتًا مدويًا للحرية، وكان هو بدوره صاحب شعارات زاعقة ومراهقة ملأ بها عقل سعيد مهران، فكان يراه الحماس الباهر الممثل فى صورة طالب ريفى رث الثياب كبير القلب، والقلم الصادق، إلا أن «علوان» فى حقيقته كان ينتظر الفرصة التى يتحرر فيها من كل قيمه التى طالما أملاها على عقله، ليخرج الأخير من السجن مُعتقدًا أنه سيرى أستاذه ورفيقه الثورى، الذى يُشهر سيفه من أجل حرية، فصُدم بأنه باعها لمن منحوه قصرًا ذا حديقة على النيل، مع سيارة فاخرة وخدم كثير.
برع «محفوظ» وهو ينقل لقارئه تدرج «علوان» فى انحطاطه سريعًا، لينتقل فى بضع سنوات من تلك الجريدة شبه معدومة الموارد إلى مركز صحفى مرموق فى جريدة كبرى، ويُبرر هذا لـ«سعيد» بأنه من عرقه، مُتناسيًا مبدأ المسدس والكتاب الذى علّمه له، وكانا عمادًا فكره القديم، والذى شجّع به «سعيد» على سرقة الأثرياء الذى صار منهم «هل امتدت يدك إلى السرقة حقًا؟ برافو، كى يتخفف المغتصبون من بعض ذنبهم، إنه عمل مشروع»؛ فظهرت لدى المجرم حقيقة «علوان» الذى فاق الجميع فى لصوصيته، وهو الذى حوّل السرقة قديمًا إلى فعل بطولى جدير بالاحترام «أليس عدلًا أن ما يؤخذ بالسرقة فبالسرقة يجب أن يُسترد؟».
كذلك لم يكن يُبالى بتصديق أحد لكذبه المفضوح حول العمل الشريف الذى لم يكن سوى انتهازية ووصولية من أجل الوصول إلى قمة المجتمع الذى كان ناقمًا عليه منذ طفولته، والذى ساهم فى بؤسه عبّر عنه يومًا بقوله «إنى أتعلم بعيدًا عن أهلى وأكابد كل يوم جوعًا وحرمانًا"؛ ما جعله ينتهز الظروف السياسية الجديدة، ويتحول إلى قلم برجوازى مأجور، وتنكر سريعًا لأصوله الكادحة، ولطبقته التى تظاهر فى البداية بالدفاع عنها، بينما كانت عيناه طيلة الوقت نصب حياة الارستقراطية.
كان «علوان» بأخلاقه المنعدمة أول من تنصل من «مهران» بعد أن انتشرت قضيته، بل وانتهز الفرصة ليرفع اسمه أكثر ويكتسب بطولة زائفة كحام للمجتمع، فصار الصوت الأعلى فى التشهير به والتنديد بأفعاله، ليُصبح المجرم الشهير وصديقه القديم أبرز ضحاياه، ويُصبح الواقف أمامه بعد خروجه من السجن شخص آخر غير من تركه فى الماضى، هذا هو «رءوف علوان»، الحقيقة العارية، جثة عفنة لا يواريها التراب. أما الآخر فقد مضى.. كحب نبوية أو كولاء عليش، وبالنسبة إليه فإن الصحفي الذي لم يجد فرصة ليعلو إلا وقد استغلها من أجل طموحه غير المحدود، ليس سوى مثال لمن كان يُشجعه على سرقتهم في الماضي.
سي السيد وأمينة.. أشهر ثنائي في الأدب
من أبرز الشخصيات الأدبية فى عالم نجيب محفوظ الروائى، الثنائى الشهر «السيد أحمد عبدالجواد»، وزوجته «أمينة» التى كانت دومًا تُناديه بـ«سى السيد». كلاهما ترك بصمة فى حياة المصريين منذ ظهور الثلاثية «قصر الشوق، بين القصرين، السكرية». حيث الزوج الصارم اللعوب فى الوقت نفسه، وكانت شخصيته حمالة أوجه، فكان يظهر فى بيته بشخصية، وله حياة أخرى بشخصية أخرى مغايرة، ليبقى نموذجًا أصيلًا للرجل الشرقى ورمزا للذكورة والمجتمع الأبوى.
وبعد الكثير من الاتهامات التى لاحقته، نفى نجيب محفوظ أن والده عبدالعزيز إبراهيم أحمد الباشا، هو نفسه «سى السيد»، وذكر فى كتاب «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ»، مع الناقد الراحل رجاء النقاش: «وبصراحة كانت شخصية والدى تتحلى بقدر كبير من التسامح والمرونة والديمقراطية، وليس فيها استبداد أو عنف، ولا علاقة لها بشخصية السيد أحمد عبدالجواد بطل الثلاثية». بل استلهم الشخصية من جار شامى الأصل اسمه «عم بشير»، استقر هو وزوجته فى مصر، وكان بيته مواجهًا لبيت محفوظ فى بيت القاضى، ووصف «محفوظ» شخصية «عم بشير» بأنه كان رجلًا طيبًا إلا أنه جبارًا، وكان يعامل زوجته بقسوة، لدرجة أنها كانت تأتى لوالدة نجيب محفوظ «فاطمة» باستمرار تبثها الشكوى من سوء معاملة الزوج.
واستلهم محفوظ جزء آخر من الشخصية من زوج شقيقه «زينب»، وهو صعيد من أصل كردى. يقول محفوظ عنه: «كان فظيعًا، ومع ذلك كانت عندما يفيض بها الكيل تقف فى وجهه بشراسة، أما والدى فربما أخذت منه فى شخصية أحمد عبدالجواد حبه للفن فقط». أما المنبع الأخير للشخصية فكان الأستاذ «سعيد» عم «محفوظ»، والذى كان معروفا بكثرة غرامياته وعلاقلته النسائية.
«الجبلاوى».. أشهر «ترندات محفوظ»
يُعّد «الجبلاوى» أشهر الشخصيات الروائية العربية على الإطلاق، وأكثر شخصيات «محفوظ» إثارة للجدل حتى اليوم. لدرجة أن الدراسات فى عالم «نجيب» الأدبى تكاد لا تخلوا من الحديث عنه. فهو تلك الشخصية الإشكالية بالغة الغموض، وبالغة التأثير فى قوة حضورها وسطوة غيابها. وكانت «أولاد حارتنا» هى أكثر روايات «محفوظ» تعرضًا للهجوم والقمع والمصادرة طيلة عقود.
عبر «الجبلاوى» عاد محفوظ مع قارئه إلى النقطة الأولى لدى الإنسان، قصة الخلق والبدء. بهدف فهم معضلة الوجود.. من أين؟ وإلى أين؟ ولماذا؟ فـ«الجبلاوى» يمثل الرسوخ والأبدية والصمت المهيب عدا عما يوحى به من الفضاء الخالى من البشر الذى أقام عليه حارته. فنجد أن «الجبلاوى» هو الأصل والأبناء هم الفرع، فهو صاحب المشروع والأبناء تجلياته.
وبعد الثورة على روايته الأولى قرر أن يكتب «الحرافيش» فى إعادة إنتاج لـ«أولاد حارتنا»، ليقدم الملحمة الوجودية ذاتها على نحو أعمق وأعقد. فى علمية تناص معقدة بين شخصيتى «الجبلاوى» و«عاشور الناجى».
"ثلاثون عامًا في صحبة نجيب محفوظ".. كيف رأى الشنواني النجيب؟
في كتابه "ثلاثون عامًا في صحبة نجيب محفوظ" يحكي الدكتور محمود الشنواني، صديق أديب نوبل الراحل، علاقته بالأستاذ منذ كان طالبًا بكلية الطب، وكان لا يزال وقتها ابن التاسعة عشرة، عندما التقاه على كورنيش النيل فى يوم الجمعة 13 فبراير 1976، وهي المصادفة التي كانت كفيلة بتغيير حياته إلى الأبد.
وضم الشنواني، فى كتابه الصادر عن صفصافة للنشر، حكاياته عن الأستاذ منذ لقائهما الأول، عندما دعاه محفوظ لصحبته قائلًا "لو تحب تقعد معانا تعال فى ريش"، وحتى أنهى الكتاب بحلم آخر لا يخص النجيب، ولكنه جمعهما والشيخ عبدربه التائه، فرواه بالطريقة المحفوظية العتيدة التى اعتاد الأستاذ أن يسردها عندما يتعلق الأمر بالشيخ صاحب الرؤى والعبارات الغامضة المؤثرة.
لم تكن تلك المصادفة البسيطة تعني للشنواني في وقتها تغيير المصير، فمجرد قبوله للدعوة التى وجهها له العملاق الراحل ليُشاطره ببساطة جلساته فى مقهى ريش، جعلته فيما بعد واحدًا من أقرب تلاميذ الأستاذ، حيث قضيا معا ثلاثين عامًا انتهت بصعوده من جوف المقبرة على طريق الفيوم، بعد أن قبّل الرجل للمرة الأخيرة فى يوم الخميس 31 أغسطس 2006 بعدما صار ابن التاسعة والأربعين.
لم يسعَ الشنوانى للاحتفاظ بصور فوتوغرافية تسجّل تلك العلاقة الطويلة ومحطاتها طيلة تلك السنوات، لم يجد فى حوزته إلا صورًا قليلة "فقد انتابنى شعور أنه الأولى أن أتشبع بروح وفكر الأستاذ بشكل شامل ولا أنشغل بالتفاصيل"، حسب قوله، فاكتفى بأن يكون هو نفسه كاميرا بشرية تُسجّل طيلة ثلاثة عقود جلسات الحرافيش مع فتوة الكتابة المصرية "يعوّض ذلك، أن هناك أحداثًا راسخة فى الذاكرة، وأننى سأسعى أن أسجل المناخ العام، وفقط التفاصيل التى ما زلت أحتفظ بها واضحة لأهميتها ولتأثيرها، وأن حديثى لن يكون مجرد سرد لمواقف خبرتها، بل به جزء أساسى من تأمل ما وراء تلك المواقف".
بدأ الشنواني فى قراءة أعمال محفوظ وعمره 18 عامًا، وكان مدخله إلى عالم الأستاذ رواية "ميرامار" التى تعرف من خلالها على معنى الأدب، بتنوع مواقف الأستاذ، بدأها بوصف أكثر مُريدى الرجل انتظامًا، ومنهم مصطفى أبوالنصر صاحب المقعد إلى يسار الأستاذ فى ريش، والذى كانت هناك محبة كبيرة بينه وبين الأستاذ، ودليل ذلك إصرار الأخير على الذهاب لجنازة أبوالنصر، رغم وهن صحته وعدم الرضا الأمنى عن تواجده بمكان عام فى هذه الفترة، وكانت المرة الأخيرة التى يشارك فيها محفوظ فى جنازة؛ وهارفى أسعد أقدم رواد الندوة وأكبرهم سنًا بعد الأستاذ، وهو ماركسى قديم تصادق مع محفوظ على مدار أربعين عامًا، والذى كان يجلس خلف الأستاذ فى كازينو أوبرا بعد صدور «أولاد حارتنا» خوفًا أن يأتى أحد يؤذيه من الخلف؛ وآخرون استمرت جلساتهم حتى صدر قرار بإغلاق المقهى أبوابه يوم الجمعة، فانتقلت الحكايات إلى كازينو قصر النيل.
قاتله لم يقرأ حرفا من أعماله!
روى الأديب فتحى هاشم، الصديق الحميم لأديب نوبل نجيب محفوظ، والذي كان ملازمًا له لحظة محاولة اغتياله على أيدي المتطرفين، في 14 أكتوبر عام 1995، تلك اللحظة التي كاد الأدب العربي يفقد فيها صاحب الإنجاز الأكبر. قال "كنت يوم الاعتداء عليه أنتظره بسيارتي أمام منزله في العجوزة في الصباح الباكر كعادتى اليومية تنفيذًا لاقتراحي بأن أصحبه متطوعًا كل يوم.. كعادته خرج الأديب الكبير من شقته بالدور الأرضي، وركب السيارة في المقعد الخلفي، وكان دائمًا يفتح زجاج السيارة حتى يرى مصر من خلال نظره لما يحيط بنا؛ وأنا متجه إلى السيارة للركوب سمعت صرخة عالية من محفوظ فنظرت إليه سريعًا، ورأيت شابًا يجري، فأسرعت إلى الأديب العالمي لأخرج سن السكين من رقبته وهو يصرخ، ولم يُعرف حينها من الذي اعتدى عليه، وأسرعت به إلى مستشفى الشرطة، وتم إسعافه وإجراء الإسعافات السريعة، ولولا عناية الله ولطفه لكانت هذه الحادثة أودت بحياته في الحال".
وأكمل هاشم روايته "علمنا بعد ذلك أن الشخص الذي اعتدى على نجيب محفوظ هو من دعاة الظلام وكان ينتظره عند باب منزله، وكان من المقرر حضور ثلاثة معه ومعهم عبوة ديناميت ناسفة كان مقررًا وضعها أسفل السيارة، وبمجرد أن تدور السيارة تنفجر العبوة وتنسف من في السيارة، لكن عناية الله جعلتنا نبدأ الحركة قبل موعدنا المعتاد، فوجد الجاني أن شركاءه لم يحضروا وأنه أصبح وحيدًا، فقرر إنهاء العملية وأخرج سكينًا من جيبه ونفّذ الاعتداء بنفسه دون انتظارهم، وتم القبض على الجناة بعد ذلك وقدموا إلى المحاكمة".
أشعل خيط القنبلة التي كادت تُطيح بمحفوظ شيوخ كانوا ينتمون إلى الأزهر -والذين عادة ما يوصفون تلقائيا بالاعتدال- عندما قرروا منع روايته "أولاد حارتنا"، وضغطوا من أجل وقف نشرها مسلسلة في جريدة الأهرام في خمسينيات القرن الماضي، كان منهم القيادي الإخواني سيد قطب، الذي بدأ حياته أديبًا وناقدًا -وهو بلا شك أحد الآباء الروحيين للشاب الذي نفذ محاولة الاغتيال بتكليف من الجماعة الإسلامية- ومن تلك الشخصيات أيضا الشيخ عبد الحميد كشك والشيخ محمد الغزالي والشيخ عمر عبد الرحمن، الذين أقاموا الدنيا ضد رواية محفوظ.
أما الشاب الذي نفّذ محاولة الاغتيال فقد كان جاهلًا، قيل له إن نجيب محفوظ مرتد ومن ثم يستحق القتل، لم يقرأ حرفًا واحدًا من أعماله كما أقر في التحقيقات التي أجرتها النيابة، ولكنه مع ذلك قام بتنفيذ ما طُلب منه، وكان تأثير شيوخ الجهل قويًا، حتى أنه لم يندم على ما فعل لا هو ولا شركاؤه في تنفيذ الجريمة التي جعلت محفوظ غير قادر على استخدام يده في الكتابة.
في كتابه "في حضرة نجيب محفوظ"، روى الكاتب محمد سلماوي حوارًا غير مباشر أداره بين أديب نوبل وقاتله الذي يُدعى محمد ناجي محمد مصطفى -وكان يعمل فني إصلاح أجهزة إلكترونية وحصل على شهادة متوسطة- حيث قال أنه "اتجه إلى الله"، حسب قوله، قبل حادثة الاغتيال بأربع سنوات "وقرأت كتبًا كثيرة خاصة بالجماعة الإسلامية إلى أن قابلوني"؛ واعترف الشاب لسلماوي بأنه لم يقرأ شيئا لمحفوظ وعقب قائلا "استغفر الله"، وشدد أنه لم يكن يحتاج إلى قراءة أعمال محفوظ، وأنه حاول اغتيال محفوظ لأنه "ينفذ أوامر أمير الجماعة، والتي صدرت بناء على فتاوى الشيخ عمر عبد الرحمن"؛ وذكر سلماوي أنه أبلغ الشاب بأن محفوظ سامحه على جريمته فقال "هذا لا يعنيني ولا يغير من الأمر شيئًا، لقد هاجم نجيب محفوظ الإسلام في كتبه لذا أهدر دمه، وقد شرفتني الجماعة بأن عهدت إلى بتنفيذ الحكم فيه فأطعت الأمر".
الصحافة "كريهة" في رواياته
يملتئ العالم السردي للأديب العالمي الراحل نجيب محفوظ بالآف الشخصيات التي استعرضها على مدى سنوات كتابته العديدة، والتي رسم بها ملامح أكثر من عصر، استعرض خلالها حيوات عديدة وعوالم مختلفة، بداية من أيام الملكية التي أُكيل لها الكثير من الفساد، ثُم ثورة يوليو التي بدت ظالمة ومُفترى عليها في الوقت نفسه؛ وكلاهما شهد تحولات عديدة للصحافة والصحفيين نقلها قلم محفوظ، وكانت دفاعًا عن غريزة الاستمرار أيًا كانت السُلطة الحاكمة؛ وقد رصد كل هذه الشخصيات وغيرها الكاتب الصحفي مصطفى بيومي في كتابه "معجم شخصيات نجيب محفوظ"، والذي تحدث فيه عن كل الشخصيات التي جاءت في أعمال الأديب الراحل القصصية والروائية، متناولًا إياها في فقرات تنوعت حسب أهمية كل شخصية في كل عمل.
قدّم محفوظ شخصية الصحفي في أكثر من عشرة أعمال تنوعت بين القصة والرواية، جاءت أغلبها أنماط وشخصيات غير سوية، متورطة في الفساد بكل أشكاله حتى النخاع، سواء كان هذا الفساد شخصيًا أم عامًا، وتنوعت سماتهم التي خلعها نجيب عليهم في أعماله، ليدفعك من خلالها في كثير من الأحيان إلى احتقار أصحاب هذه المهنة، تنوعت بين النفاق والتحايل، والابتزاز والانتهازية، والرقص فوق جثث الآخرين واللا مُبالاة سوى بالمصالح الشخصية.
سلوكيات الصحفي في أدب نجيب محفوظ اتسمت بالانحراف، بداية من السهر والمجون والانحلال الأخلاقي، وصولًا إلى الإفراط في تعاطي الخمور والمخدرات، وهي السمة التي لا تنفصل عن أغلب الشخصيات، فهل كان محفوظ يرى الصحفيين في عصره بهذه الدرجة من السوء التي نقلها إلينا عبر صفحاته؟ وهل كانت الصحافة نفسها كمهنة بهذا السوء، بحيث يعتمد ممارسوها في الصعود والترقي على الابتزاز وفضائح الآخرين.
"على السيد".. بائع المواقف بـ"الويسكي":
في روايته الصادرة عام 1966، أثار نجيب محفوظ غضب النخبة الحاكمة واعتراض الكثير من أقطابها، بسبب الزمرة المُستهترة التي جمعها في عوامة واحدة من أجل مُمارسة الغياب عن الوعي، وجلبت له المشكلات، وكان رجال نظام يوليو على استعداد لإلقائه في سجونهم، لولا تدخل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، والذي لم يجد ما يُسئ إليه ومنح محفوظ صك الاستمرار، لتتحول شخصياته العابثة إلى فيلم عام 1971، أخرجه الراحل حسين كمال، في هجوم على نظام عبد الناصر بعد نكسة 1967، وتظهر فيه شخصيتان من عالم الصحافة، أحدهما فاسد بعد فطرته السليمة وانتماؤه إلى المؤسسة الدينية، بينما الأخرى تبدو الأكثر نقاء، ولكنها تفشل في اختبارها الأخلاقي حينما تتغلب عاطفتها على مبادئها.
من أركان العوامة يبرز الصحفي والناقد الفني "على السيد"، الذي انحرف تمامًا عن نشأته الأزهرية واتجه إلى المخدرات التي انتهت به إلى العوامة "وكان لا يكتب إلا مجاملة لصديق أو هجومًا على عدو أو لابتزاز قدر من المال"، ووصفته زميلته بأنه "وغد كبير، يقيم أسسه الجمالية على المنفعة المادية، فلا يضطر إلى قول الحق إلا إذا خانه الحظ، وعند ذاك ينقلب هجاء سافرًا بلا رحمة"؛ كما تمثّل هذا في زيارة صديقه الممثل رجب القاضي إلى المجلة عندما رأى مساومته مع أحد المنتجين من أجل مقال له اختصر قيمته بقوله "الحكاية صندوق ويسكي بلا زيادة.. وسيستهلك في عوامتكم اللعينة".
كأغلب صحفيين محفوظ جاء السيد ليُعاني من تناقض شديد بين نشأته الأولى وإدمانه الحالي، فهو متزوج من امرأة قروية يُبقي عليها بلا طلاق، وأخرى قاهرية من ربات البيوت لاتختلف عن ضرتها، ليُرضي بهما نوازعه المحافظة للسيادة، أما في العوامة فهو الزوج الاحتياطي لإحدى نساءها وهي سنية كامل التي تهجر زوجها مرارًا إلى العوامة.
حتى "سمارة بهجت"، والتي كانت مثالًا للفتاة الجادة والصحفية المجتهدة لم تخلو من نقاط العيب التي جعلتها -بشكل ما- تستحق بدورها أن تكون أحد شخصيات العوامة؛ فالفتاة التي كانت على طريقة ذلك العصر "صحفية شابة تقدمية جادة"، والتي وصفها بيومي في موسوعته بأنها "بمثابة الاستثناء وسط أغلبية طاغية من اللاهين العابثين اللامبالين والمخاصمين للجدية والالتزام" لكنها لم تستطع مواجهة ساكني العوامة عندما رفضوا جميعًا التوقف بعد أن دهس رجب القاضي رجلا بسيارته ولاذ بالفرار.
أدخل محفوظ شخصية سمارة إلى عالم العوامة العابث عن طريق على السيد، الذي قدّمها للجميع باعتبارها "صحفية ممتازة أكبر بكثير من سنها، وذات آمال أدبية ترجو أن تتحقق ذات يوم. ممن يأخذن الحياة مأخذ الجد وإن تكن لطيفة المعشر. ومعروف أنها رفضت زواجًا برجوازيًا فاخرًا رغم مرتبها الصغير"، وبقيت هي معهم بهدف اكتساب خبرة جديدة، ومعايشة واقعهم الذي لا يفيقون فيه، وكانت بدورها تبحث عن موضوع لمسرحية تُفكر في كتابتها، لكنها تقع في حب رجب في الوقت الذي تحتقر فيه الآخرين، وهو ما بدا في ملاحظاتها في مفكرتها الخاصة التي استطاع أنيس زكي -القائم بأمر العوامة- أن يطلع عليها، ما يجعله يثور متهمًا إياها بأنها "فتاة رديئة"؛ وكانت اللحظة التي تنحي فيها مبادئها عندما دهس حبيبها الرجل، عندها أقرت نظريًا أن الهروب جريمة، لكنها هربت كالآخرين؛ وفي النهاية هاجمها رجب بقوله "إنك تمثلين دور الشجاعة مطمئنة إلى معارضتنا الاجتماعية"، بينما واجهها أنيس بحقيقة أن حبها لرجب تفوق على مبادئها.
"محمد بهجت".. صاحب "الإعلانات القذرة":
على عكس الرواية، لا تُعطي القصة القصيرة جولة مُتعمقة كما يحدث مع شخصيات الرواية، والتي تُعطي في سردها مساحة أكبر في التفاصيل والنشأة وغيرها، إلا أن القصة كذلك تُعطي صورة مباشرة أكثر عن الشخصية لتصل بقارئها إلى الحقيقة سريعًا.
وربما يأتي "محمد بهجت" الصحفي في قصة "زينة" التي نشرها ضمن المجموعة القصصية "دنيا الله"، التي صدرت طبعتها الأولى عام 1962 عن مكتبة مصر، واستعرض فيها أديب نوبل الراحل العديد من الشخصيات في المجتمع؛ فجاء بهجت بدوره نموذجا للصحفي الذي يستغل قلمه في أعمال الدعاية من أجل الوصول إلى أحلام الثراء وتدرج السلم الطبقي سريعًا -كأغلب الصحفيين في عالم محفوظ- وتمثلت لديه هذه الأحلام في "شقة جديدة في حي راق بعيد عن روض الفرج طبعًا، أثاث فاخر، مطبخ أمريكاني، بار أمريكاني أيضًا، سخان، فريجدير كبير، سيارة، شقة دائمة بالإسكندرية للتصييف في الصيف ولعطلات المواسم في بقية الفصول"؛ ما يجعله يكتب مقالات عن العقاقير الطبية لصالح الشركات التي تدفع، بل ويترك صاحب الشركة ما يُيريد ويُذيله باسمه دون أن يجد حرجًا في ذلك.
لا يُعلق بهجت كثيرًا على التدخل السافرفي عمله، فهو تجاوز مرحلة التفكير فيما يفعل، ولم يعد لديه ضمير يُقلقه من ضرر تناول هذه العقاقير التي لا تُجدي نفعًا لدى المرضى، طالما يتناول هو مع كل موضوع ظرفًا مُناسبًا، بينما واجهه مدير الشركة بحقيقته القاسية في برود "ستأخذ المجلة أجرة إعلان ممتازة جدًا، وستأخذ أنت مكافأتك كما اتفقنا"، وفي بعض الأحيان "كان يُقارن بدهشة بين حاله حين تخرجه في الجامعة والتحاقه بالعمل مخمورًا بأسمى الآمال، وبين حاله التي صار إليها حين لم يعد لشئ قيمة إلا السيارة وجهاز التكييف وتعليم الأولاد في الكلية الأمريكية".
جورنالجية "المرايا": خائنة ومنحل و"مُعارض للإيجار":
"لا تغال في المثالية وإلا مُت تقززًا"..
كانت هذه إحدى أهم نصائح محفوظ في روايته "المرايا"، الصادرة عام 1972، والتي تحولت إلى فيلم سينمائي بطولة الراحل نور الشريف مع نجلاء فتحي، والتي استعرض فيها بتنوع شخصياته الخمسين بين صفحات الرواية، واضعًا يده على فترة ما بين ثورة 1919 حتى ما بعد نكسة يوليو بقليل، ناقلًا توصيف للحالة الاجتماعية وحال الشعب المصري في هذه الفترة من خلال هؤلاء، حيث كانت الانتهازية والوصولية لأقصى حد هي السمة الرئيسية؛ إضافة إلى الخيانة، وانعدام الأمانة، والتخلي عن القيم والأخلاق والدين.
يأتي "سالم جبر" كمثال للصحفي المُتعارض مع توجهات الدولة أيًا كان مسارها، وكما وصفه محفوظ فهو "شخص غريب خُلق ليكون مُعارضًا، حُبًا في المُعارضة قبل كل شيء، فإذا كانت الدولة إقطاعية فهو شيوعي، وإن تكن يسارية فهو مُحافظ"؛ هكذا كان يدعو الناس للتخلي عن الطربوش واستبداله بالقعبة الغربية في خطوات نحو المزيد من حياة الغرب، وأن تتحرر المرأة ثُم فجأة أصبحت تُهمة الإلحاد جاهزة له -رغم انتمائه السابق إلى التيار التقدمي- بعد أن تحرك فكره عقب ثورة 1919 إلى اليسار مُقتربًا من الشيوعية، فألف كتابا عن كارل ماركس أثار عاصفة أحكمت التُهمة، التي شملت المُغالاة والافتراء على الدين الإسلامي.
بشكل ما فإن تطرف جبر الفكري قد انعكس على كل شيء، فوصف حزب الوفد -كيانه الذي ينتمي إليه- بأنه "أفيون الشعوب"، وأن ما يُبرمه من اتفاقات ومُعاهدات فقط لاستمرار الصمت الشعبي؛ كما أنه وعلى عكس العديد من المصريين الذين كانوا يريدون من روميل الاستمرار وطرد الإنجليز، هاجم النازية وحليفتها الفاشية، ومالت علاقاته نحو السفارة البريطانية ورجالها؛ أمّا بعد قيام ثورة يوليو فقد برزت حالته المُتناقضة أكثر رغم انتماؤه للنظام الجديد، فعمل في خدمته، لكنه رغم عمله وتأييده كان يُعارض الكثير من أفعالها، فقط من أجل المُعارضة التي لم يعد يستغني عنها.
وتتفق مع جبر في مُعارضة ثورة يوليو -رغم اختلاف الأسباب- الصحفية الشابة "مجيدة عبد الرازق"، وعانت من الاضطهاد في صغرها لأنها البنت الوحيدة لأربعة إخوة من الذكور، والتي مع تكوين رؤيتها تختلف مع أستاذها زهير ذي الانتماء الوفدي، وخطت نحو الشيوعية على يد صاحب علاقتها الزوجية الوحيدة محمد العارف، إلا أن الاتجاه الاشتراكي الذي مال إليه نظام عبد الناصر بدأ في تغيير رؤيتها تدريجيًا؛ ورغم أنها ذكية وجذّابة، إلا أن مجيدة حظت بحياة مليئة بالتقشف العاطفي، فعقب طلاقها تفرغت لتربية طفليها لتحيا في وحدة اختيارية مليئة بالكآبة والبرود.
على عكس مجيدة جاءت الشابة "نعمات عارف" ابنة العشرين، والتي كانت لا تزال تحت التمرين، والتي اتخذت أسرع الطرق بالزواج من الأستاذ زهير ذي الستين عامًا، الذي ركن بعدها إلى الراحة "فلم يمسك بالقلم إلا لكتابة يومياته الأسبوعية في الموضوعات اليومية العامة"، ولم يقو على حيوية الفتاة التي سُرعان ما انخرطت في الخيانة مع صديق زوجها؛ أما الزوج نفسه، فقد جاء ترهله بعد حياة مُثقلة بالتناقضات والنفور، فكان مع كتاباته السياسية في الوفد، بعد حصوله على عضوية مجلس النواب، مع الإتجار بكل شئ؛ وحتى يستمر بعد ثورة يوليو قامت بُمهاجمة الوفد بشراسة رغم إيمانه داخليًا بمبادئه "وتعين صحفيًا في إحدى الجرائد الكبرى، وسُرعان ما اعتُبر قلمه من أقلام الثورة، كما عُهد إليه بتحرير صفحتها الأدبية، فقاد نُقّاد الأدب المُعاصر"، وكان حسب الهدية أو المبلغ الممنوح له يقوم بتقييم الأعمال الفنية.
وبعيدًا عن الفساد السياسي والمهني، يأتي الانحلال الأخلاقي واضحًا بدوره مع "يوسف بدران" الصحفي الفني، والذي لا يُمانع في التورط في علاقة مع "الفنانة التشكيلية التقدمية المتزوجة عزيزة عبدة"، والتي يزداد تورطه معها بعد أن تم اعتقال زوجها في حملة ضد الشيوعيين، وتُنجب منه طفلة تحمل تحمل ملامحه تُصر عزيزة على إبقاءها، إلا أنه يتجنب رؤيتها.