انطلقت أولى فعاليات المنتدى الفكري لمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء، بعقد جلسة نقاشية، تحت عنوان: "جهود تحقيق الانضباط المالي والاستدامة المالية في مصر.. الوضع الحالي ومزيج السياسات الأمثل"، وذلك بمشاركة أحمد كجوك، نائب وزير المالية للسياسات المالية، والدكتورة كاثرين باير، نائب مدير إدارة شؤون المالية العامة بصندوق النقد الدولي، والدكتور جودة عبد الخالق، أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة وعضو اللجنة الاقتصادية في الحوار الوطني، والدكتور هاني جنينة، الخبير الاقتصادي، مدرس الاقتصاد بالجامعة الأمريكية بالقاهرة.
وأكد أسامة الجوهري، مساعد رئيس الوزراء، رئيس مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، أن إطلاق المنتدى الفكري يأتي في إطار مناقشة مختلف المستجدات الاقتصادية والسياسية وغيرها محليًا وإقليميًا ودوليًا، وانعكاساتها على الدولة المصرية، بما يدعم عملية صنع القرار، وكذلك تعزيز تحركات الحكومة لتبادل وجهات النظر المختلفة والأفكار ذات الصلة مع مختلف الخبراء والمتخصصين، لافتاً إلى أنه من المقرر أن تُعقد جلسات المنتدى بشكل دوري بمشاركة ممثلين عن الجهات الرسمية، والأكاديميين، والخبراء المختصين، وممثلين عن المؤسسات الإقليمية والدولية المعنية، والبرلمانيين، واللجان المعنية في الحوار الوطني.
وفي مستهل الجلسة، أشار الجوهري، إلى أهمية انعقاد المنتدى الفكري لمركز المعلومات، كحلقة وصل بين الحكومة ومختلف الخبراء والمتخصصين في كافة المجالات الاقتصادية وغيرها، في إطار الحرص على استدامة تحقيق المشاركة المجتمعية الفعّالة مع مختلف الجهات والأطراف المعنيَّة كنهج حكومي مستمر، مشيرًا إلى نجاح ورش العمل التي استضافها "مركز المعلومات" للحوار حول وثيقة ملكية الدولة، والتي تكللت بإقرارها رسميًا قبل أيام من مجلس الوزراء، بعد الاستماع إلى آراء نحو 1000 خبير ومتخصص على مدار 40 ورشة في القطاعات الاقتصادية والإنتاجية المختلفة بالدولة، تزامنًا مع تدشين الحكومة منصة للحوار المجتمعي، لتبادل الرؤى والأفكار في القضايا ذات الأولوية، والوصول إلى رؤى مشتركة لأفضل الحلول لمواجهة التحديات التي يواجهها المجتمع المصري.
كما أكد الجوهري على النتائج الإيجابية التي تحققت نتيجة لإطلاق مصر لبرنامج الإصلاح الاقتصادي، والذي مكّن الدولة من تحقيق العديد من الإنجازات في العديد من النواحي المالية، مشيرًا إلى تأثير الظروف العالمية الحالية على حركة اقتصادات الدول متوسطة ومنخفضة الدخل، ما دفع كافة تلك الدول لمراجعة سياساتها المالية ومستهدفاتها، لافتًا إلى أن متوسط مديونية الدول متوسطة ومنخفضة الدخل تضاعف خلال السنوات الماضية نتيجة للظروف العالمية.
وشهدت الجلسة عرضًا تقديميًا للدكتورة هبة عبد المنعم، رئيس محور شؤون المكتب الفني لرئاسة "مركز المعلومات"، والذي استهدف بيان الآثار والمخاطر المتوقعة على الاقتصادات الناشئة، في ظل ارتفاع معدلات التضخم والمديونية العالمية، وتشديد السياسات النقدية بالدول الكبرى، كما تطرق العرض إلى الجهود التي تبذلها مصر لتحقيق الانضباط المالي والاستدامة، في ظل التحركات الجارية لتحقيق الإصلاح الاقتصادي وإصلاح الاختلالات بالموازنة العامة للدولة وتحقيقها لفائض مالي لأول مرة خلال السنوات الماضية، وأشار العرض إلى التحديات التي تواجه الاقتصاد المصري خاصة في ظل ارتفاع أسعار الفائدة عالميًا، وما استتبعه من ضغوط على سعر الصرف.
من جانبها، أعربت د. كاثرين باير، نائب مدير إدارة شؤون المالية العامة بصندوق النقد الدولي، عن ترحيبها بالمشاركة في أولى جلسات المنتدى خاصة لمناقشة الموضوعات المتعلقة بضبط أوضاع المالية العامة والدين العام، مؤكدة أن التحديات التي تمر بها مصر حاليًا تشهدها كافة اقتصادات الأسواق الناشئة.
وأشارت كاثرين، خلال كلمة مسجلة ألقتها في مستهل الجلسة، إلى مدى الحاجة إلى الحفاظ على مرونة سعر الصرف في مصر، مع ضمان سياسات مالية ونقدية تحوطية واستمرار الإصلاحات الهيكلية والحوكمة، مضيفة أن ضعف توقعات النمو الاقتصادي عالميًا وتشديد السياسات المالية وارتفاع أسعار السلع الأساسية تؤدي إلى زيادة الاحتياجات التمويلية، خاصة في ظل خروج حجم كبير من رؤوس الأموال عقب الأزمة في أوكرانيا بما يتطلب وضع مجموعة من تدابير السياسة العامة.
وأكدت مسؤولة صندوق النقد الدولي على ضرورة الحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي وضمان استمرارية القدرة على تحمُّل الدين وحماية الفئات الضعيفة وتعزيز نمو القطاع الخاص، لافتة إلى أن تعزيز الإيرادات والتصحيح المستمر لأوضاع المالية العامة من أهم سياسات خفض الدين العام، بجانب ضرورة دعم شبكات الحماية الاجتماعية وفق أسس دقيقة لتحديد الفئات المستهدفة والمستحقة، مؤكدة أن شبكات الحماية الاجتماعية للفئات الفقيرة تساعد على التخفيف من وطأة الصدمة الناجمة عن ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة عالميًا.
وذكرت كاثرين، أنه ينبغي للسياسات بوجه عام أن تستهدف دعم الأسر ذات الدخل المنخفض من خلال شبكات الأمان الاجتماعي، مشيرة إلى أن دول العالم شهدت في عام 2020 تفاوتًا كبيرًا في القدرة على تقديم الدعم مع انتشار الوباء، حيث كانت اقتصادات الأسواق الناشئة أكثر تقيُّدًا في مواجهة صدمات الطاقة والغذاء الناجمة عن الأزمة في أوكرانيا مقارنة بالاقتصادات الكبرى، مؤكدة أن ارتفاع الديون يحدُ بشدة من قدرة السياسة المالية على دعم الاقتصاد ويؤدي إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض وندرة موارد تمويل الموازنة، على النحو الذي يتطلب تسوية أرصدته، بما يشمل تحركات أسعار الصرف وتعزيز الاقتصاد الكلي والحفاظ على أرصدة المالية العامة.
وخلال الجلسة، قال أحمد كجوك، نائب وزير المالية للسياسات المالية، إن الإصلاح الاقتصادي يعد عملية مستمرة وضرورية لتحقيق مستهدفات الدولة الاقتصادية، مشيرا إلى أن تلك الجهود نجحت في خفض عجز الموازنة خلال السنوات الماضية من 16.5 % إلى 6.1%، مع استمرار التحركات المستهدفة مستقبلاً لخفض عجز الموازنة إلى 4 %، ولافتاً إلى نجاح السياسات الاقتصادية للدولة في تحقيق فائض أولي لمدة 4 أو 5 سنوات قبل حساب أعباء خدمة الديون رغم كافة الصدمات المتعلقة بالجائحة وغيرها.
وأكد كجوك أن هناك تحسنًا كبيرًا بهيكل الموازنة، كما أن هناك خطوات جارية للاستمرار في خفض الدين العام، مشيرًا إلى وجود تحسن كبير في تلك المؤشرات مقارنة بالسنوات الماضية، حيث انخفضت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي من 103 % إلى 80 % قبل انتشار جائحة "كورونا"، مشيرًا إلى أن الدولة برغم تلك الصدمات نجحت في الحفاظ على مسار تصاعدي لمعدل النمو، وذلك رغم تحمل موازنة الدولة أيضًا لأعباء أخرى، تمثلت في فض التشابكات المالية المتراكمة بين عدد من الجهات بالدولة، مثل: التشابكات بين صندوق التأمينات والمعاشات ووزارة المالية وبنك الاستثمار القومي.
وأوضح كجوك، أن البرنامج الذي تنفذه مصر بالتعاون مع صندوق النقد الدولي يستهدف تحقيق سعر صرف مرن، وخفض المديونية الحكومية نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي، مع تنفيذ برنامج قوي للإصلاح الهيكلي لدعم عمل القطاع الخاص، مؤكدًا أن الدولة تسير وفق خطة تستهدف تحقيق مجموعة من الأهداف، وهي: الحفاظ على استقرار الأوضاع الاقتصادية والمالية واستدامة مؤشرات وأوضاع الاقتصاد الكلي في ضوء التداعيات المرتبطة بالصدمات الخارجية المركبة الراهنة، والعمل على تحقيق مسار نمو مرتفع ومتوازن ومستدام مدفوع بدور ومساهمة أكبر للقطاع الخاص، على أن يصاحب ذلك خلق فرص عمل كافية ولائقة، واستهداف مساندة القطاعات الواعدة ذات القيمة المضافة العالية من خلال برنامج الإصلاحات الهيكلية وكذلك استكمال منظومة تحسين حوكمة وكفاءة إدارة واستخدام أصول وموارد الدولة.
ومن جانبه، ثمّن الدكتور جودة عبد الخالق، أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة وعضو اللجنة الاقتصادية في الحوار الوطني، توجه الدولة للاستماع لكافة الآراء ووجهات النظر المختلفة بما يدعم العمل الحكومي، معبرًا أيضًا عن سعادته بالحرص على وجود الأحزاب كطرف مشارك في كافة الفعاليات التي تستهدف تبادل الرؤى والأفكار، خاصة داخل الحوار الوطني، ومؤكدًا أن الاختلاف في وجهات النظر لا يستهدف في مجمله إلا تحقيق الصالح العام.
وأكد "عبد الخالق"، ضرورة ارتكاز السياسات الاقتصادية على فكر اقتصادي رصين سواء كان ذلك بصورة صريحة أو ضمنية، وضرورة أن يحكم عملية صياغة السياسات الاقتصادية معياران وهما الكفاءة والعدالة، مشيراً إلى أهمية العمل على تعزيز تنافسية الاقتصاد المصري باعتباره القضية المحورية حاليًا. مشيراً في هذا الإطار، إلى أن تخفيض سعر الصرف الاسمي (Nominal Devaluation)، إذا لم تسانده سياسات ملائمة، قد ينتهي الي ارتفاع قيمة العملة (Real Appreciation)، وبالتالي فقدان التنافسية الدولية.
واقترح "عبد الخالق"، مجموعة من الإجراءات لتحسين الأداء في الملف الاقتصادي، من بينها ضبط وترشيد الإنفاق الحكومي، ودعم المصانع المتعثرة، وتحديد سقف للدين العام، ومحاربة الفساد ووضع قيود على الواردات إعمالاً لحقوق مصر كعضو في منظمة التجارة العالمية طبقًا للمادة 18- ب من اتفاقية الجات، ووضع حد أقصى لزيادة كمية النقود بمعدل يساوى زيادة الإنتاج لضمان الاستقرار النقدي، وإعادة النظر في نظام دعم القمح والخبز والسلع التموينية لمكافحة وردع المتلاعبين، إضافة إلى تغيير نظام سعر الصرف بربط الجنيه المصري بسلة من العملات ممثلة للشركاء التجاريين لمصر، وإصدار تشريعات لتحقيق الكفاءة والعدالة لاسيما ما يتعلق بتعديل قانون إيجارات العقارات القديمة وقانون العلاقة الإيجارية للأراضي الزراعية.
وقال الدكتور هاني جنينة الخبير الاقتصادي، مدرس الاقتصاد بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، إن مصر لديها قدرة على تحقيق الاستدامة في المديونية على المدى المتوسط والطويل، إلا أنها تواجه عددًا من التحديات على المدى القصير بما يؤثر على السيولة الدولارية محليًا، مضيفًا أنه بالرغم من تلك التحديات فإن مصر لم تتخلف عن سداد ديونها الخارجية، أو تدخل في عمليات لإعادة جدولة الديون، بل بدأت في تحويلها إلى استثمارات، مؤكدًا أن التضخم في مصر لم يصل حتى الآن إلى المستويات المرتفعة التي تشهدها دول، مثل: تركيا والأرجنتين، والتي تفوق نسبة الـ 50 %، كما لا يزال داخل الحدود الآمنة وفق رؤية صندوق النقد الدولي، والتي يحددها بحوالي 25%، بينما بلغ معدل التضخم في مصر العام الماضي حوالي 5 %، قبل أن يرتفع إلى 16 % حاليًا.
وذكر جنينة، أنه بالرغم من أهمية الاعتماد على رؤوس الأموال الساخنة في توفير الاحتياجات التمويلية المختلفة، فإنه يمكن الاعتماد على تجارب عدد من الدول في هذا الإطار، لضمان عدم تأثير ذلك النهج على بعض النواحي المالية والنقدية، ومن بينها التجربة الماليزية، التي تشترط على رؤوس الأموال الساخنة، ترك نسبة من استثماراتها حال قررت التخارج من السوق بشكل مفاجئ، وذلك لضمان تقليل التبعات التي أحدثها قيام البنك الفيدرالي الأمريكي برفع سعر الفائدة، وما استتبعه من حركة موسعة لانتقال رؤوس الأموال.
وطالب جنينة، بتشديد السياسة النقدية لفترة أطول لوقف ارتفاع معدلات التضخم، ولضمان عدم تخطيه للمعدلات المستقبلية المستهدفة، لما له من دور في التخفيف من الضغط على ميزان المعاملات الجارية، مع وضع حوافز ضريبية للمصدرين، والحفاظ على التدفقات المالية المنتظرة من الاستثمارات المختلفة، واستغلالها في زيادة الاحتياطي النقدي وعدم توجيهها مباشرة لمجالات الإنفاق، مؤكدًا على ثقته في القيادات المالية والمصرفية في مصر حيال تبنيهم لمختلف تلك الأفكار والتوجهات الاقتصادية.