كنت في الحلقة السابقة طفت على مملكة كوكب الشرق من الخارج، كمشتاق لقفز السور ودخول القصر المسحور، يتطلع إلى التواريخ والأسماء على الجدران حتى يُأذن له بدخول تلك المملكة، والسماح له بالكتابة عن علاقة ملكة الطرب بشعبها، وها نحن نخطو أول خطوة في بلاط حُكمها وعلى السامعين والقارئين والمحبين أن يتوضأوا بماء الحب ويستشعروا رهبة الأمر في صدورهم، وأن يُقنوا أن بين البشر والآلهة ثمة خلق آخر، وهذه ليست مغالاة في حب أم كلثوم ولكنه إقرار بحدوث تلك المعجزة، لأن من منحها ووهبها ووضعها في مكانة لم يصل لها أحد هو الله.. فأم كلثوم لم تكن مطربة بل كانت ونسا للقلوب وتذكرة للعاشقين وأيقونة للجمال حين التغني بالكلمات فيكفي أنك إذا ما أنصت إليها قُلت الله... الله
ثومة وإبراهيم ناجي ورائعة «الأطلال»
كنا مررنا مرورا سريعا على أسماء بعض الشعراء الذين غنت كلماتهم أم كلثوم، ودلف بنا القلم في هذه الحلقة إلى علاقة كوكب الشرق بالشاعر الكبير الطبيب إبراهيم ناجي وذلك من واقع ما ذكرته أم كلثوم بنفسها عن أول لقاء لها معه فقالت: «رأيته حين كان يزور نقابة الموسيقين، وكان يبدو بائسا محطمًا يجلس إلى الموسيقين، فتشعر أنه يطوي صدره على قصة حب بلا أمل».
وتضيف ثومة في حديثها عن ناجي: «لم نتحدث في الشعر مرة واحدة، ولكني كنت أحس فيه رقة المشاعر التي لابد أن تؤتي ثمارا فنية طيبة سواء شعرية أو موسيقية، وقرأت له ديوانه بعد إن مات ووقفت عند الأطلال.. هل رأى الحب سُكارى ودفعت بالقصيدة إلى رياض السنباطي».
يا فؤادي لا تسل أين الهوى
كان صرحا من خيال فهوى
اسقني واشرب على أطلاله
وأرو عني طالما الدمع روى
كيف ذاك الحب أمسى خبرا
وحديثا من أحاديث الهوى
ووفقا لما ذكره الدكتورحنفي المحلاوي في كتابه «شعراء أم كلثوم»، أن هذه الأبيات التي تغنت بها كوكب الشرق أم كلثوم من كلمات الدكتور إبراهيم ناجي قد نشرها ضمن قصيدة طويلة بديوانه، الذي صدر تحت عنوان "ليالي القاهرة"، هذا الديوان نُشرت به كذلك مقدمة أوضحت لنا قصة هذه القصيدة، أنها قصة حب عاثر.. التقيا وتحابا ثم انتهت القصة بأنها قد صارت أطلال جسد وصار الشاعر أطلال روح.
وتعددت الروايات حول قصيدة الأطلال لـ"إبراهيم ناجى" فهناك رواية تقول إنه أحب الفنانة زوزو حمدى الحكيم والتى قالت فى إحدى لقاءاتها الصحفية، التى نقلتها جريدة "أخبار الأدب"، "أنا ملهمة شاعر الأطلال" وقالت أنها المرأة التى أحبها الشاعر إبراهيم ناجى وكتب فيها قصيدته "الأطلال" التى غنتها السيدة أم كلثوم بعد وفاته بـ13 عاما".
وتقول زوزو"فى إحدى المرات سمعت أغنية السيدة أم كلثوم الأطلال، وشعرت أننى قرأت تلك الأبيات من قبل، وعدت إلى الروشتات التى كان يكتبها (ناجي) لوالدتي، ووجدت كل بيت من أبيات القصيدة على كل روشتة"، حيث كانت تصاحب والدتها إلى الطبيب فأحبها ناجى.
وهناك روايةأخرى تقول أن حبيبة ناجي كانت ابنة الجيران وكان لديه 16 عامًا، سافر خارج البلاد ليدرس الطب وعاش تلك الفترة يحلم بحبيبته واليوم الذى سيعود فيه ويراها ويكمل قصته الغالية، ولكن عند عودته فوجئ أنها تزوجت فما باليد حلية سوى أنه كتم حبه في صدره وعاش قلبه ينبض بالحب دون أن يرى حبيبته أو يعرف عنها شيئا.
مرت سنوات طوال مدتها خمسة عشر عامًا لم ينس إبراهيم ناجى حبيبته، وفى منتصف ليل إحدى ليالى الصيف طرق بابه رجل أربعينى يستغيث به كطبيب لينقذ زوجته التى كانت فى حالة ولادة متعسرة، ذهب معه الطبيب إبراهيم ناجى ليجد زوجة الرجل حبيبة عمره.
رائعة الأطلال هزت عرش الغناء وقلوب العشاق فى العالم من وقت أن ظهرت للنور وحتى الأن، ولا احد يعرف ما سر جمال هذه القصيدة التى ما من أحد يسمعها إلا وجذبته بسحرها.
ويبلغ عدد أبيات القصيدة 134 بيتًا، وعدد مقاطعها ستة وعشرون مقطعًا، وكل مقطع به أربع أبيات أو أكثر.
وكعادتها انتقت أم كلثوم بعض الأبيات وعدلت في بعض الكلمات وتركت بعض الأبيات منها:
يا غراما كان مني في دمي
قدرا كالموت أو في طعمه
ما قضينا ساعة في عرسه
وقضينا العمر في مأتمه
ما انتزاعي دمعة من عينه
واغتصابي بسمة من فمه
ليت شعري أين منه مهربي
أين يمضي هارب من دمه
عظمة «ثومة» أنك مهما حاولت أن تعيد نظم القصائد بما حذفته أو غيرته في أبياتها لن تتقبلها غنائيا سُتدرك أنها اختارت من بين تلك القصائد ما هو متجانس في الموسيقى وما هو سلسل على المُتلقي دون أن تبخس حق الشاعر وكأن أمامها سلاسل من الفاكهة تنتقي أطيبها لتقدمه لمستمعيها لذا عشقوها وخلدوها في قلوبهم.
وقبل أن نستكمل حديثنا عن أم كلثوم والأطلال نمر على سيرة الدكتور إبراهيم ناجي، الذي ولد في حي شبرا بالقاهرة في عام 1898 وتخرج في مدرسة الطب في عام 1922، وعين طبيا بالسكة الحديد ثم في وزارة الصحة ثم في وزارة الأوقاف، ورغم تفوقه في الطب، إلا أنه عكف على دراسة الأدب خاصة الأدب العربي القديم، ولم تتوقف ثقافته على العربية فقط، بل قرأ الأدب الأجنبي وذكر في مقدمة كتابه "مدينة الأحلام"، ولعه بالكاتب الإنجليزي الشهير "تشارلز ديكنز".
وبدأ ناجي محاولاته الشعرية الأولى في سن الحادية عشرة من عمره، وبعد تخرجه من كلية الطب بدأ يتردد على مجالس الأدباء وشارك في تأسيس جماعة أبوللو للشعر في عام 1932، وبعد عام من تأسيس هذه الجماعة ظهر ديوانه الأول "وراء الغمام، وفي عام 1951 أصدر ديوانه الثاني "ليالي القاهرة" وبعد رحيله في عام 1951 صدر ديوانه الثالث "الطائر الجريح".
خلافها مع السنباطي على «القفلة»
ونعود مجددا إلى "ثومة" والأطلال، التي غنتها بعد رحيل "ناجي" وقد غاب العود عن هذا اللحن، لأن محمد القصبجي كان قد رحل هو الآخر.
ومما ذُكر في كواليس الإعداد للأغنية، أنه أثناء تدريب أم كلثوم عليها طلبت من الموسيقار رياض السنباطي تغيير القفلة في المقطع الأخير من العالية إلى الهادئة، فاختلف معها السنباطي وتوقفت الأطلال لمدة 4 سنوات، رفضا أيا منهما التنازل عن رأيه حتى توسط بعض الأصدقاء ووافقت أم كلثوم على رأي السنباطي.. وخرجت الأطلال للنور وتفاعل معها الجمهور وكُتبت ضمن قصائد أم كلثوم التاريخية التي خلدت اسم إبراهيم ناجي بجوار كوكب الشرق.
يا حبيبي كل شيء بقضاء
ما بأيدينا خلقنا تعساء
ربما تجمعنا أقدارنا
ذات يوم بعدما عز اللقاء
فإذا أنكر خل خله
وتلاقينا لقاء الغرباء
ومضى كل إلى غايته
لا تقل شئنا فإن الحظ شاء
فإن «الحظ» شاء فإن الله شاء