كسيارة متهالكة يكسوها التراب تفككت أغلب مكوناتها الأساسية مع احتفاظها بتماسك هش لهيكلها القديم ؛ يبدو الاتحاد الأوروبى بعد نحو عشرة أشهر من اندلاع الأزمة الأوكرانية بسبب السيطرة الأمريكية شبه المطلقة على قرار حكومات دول الاتحاد.
بمرور الوقت سيدرك الحالمون سواء بالهجرة الشرعية أوغير الشرعية إلى أوروبا أنها قارة قد شاخت وهرمت ولم تعد أرض الأحلام والفرص لحياة أفضل.
واقع الحال الذى آلت إليه القارة العجوز لايجعل تلك الصورة مبالغ فيها والتدقيق فى تفاصيل المشهد الأوروبى على الصعيد الاقتصادى والاجتماعى والسياسى الداخلى؛ وعلى صعيد المواقف المتخبطة والمتناقضة إزاء أطراف الصراع العالمى الرئيسة يؤكد إن أوروبا اليوم لم تعد أوروبا التى عرفناها قبل ٢٤ فبراير ٢٠٢٢ تاريخ انطلاق العملية العسكرية الروسية الخاصة فى أوكرانيا.
باعتراف قادة أوروبا أنفسهم شيدت القارة العجوز قلاعها الصناعية وطورت اقتصادها وحققت لمواطنيها مستويات الرفاهة الاجتماعية على حساب الطاقة الروسية الرخيصة ( النفط والغاز) وقبل ظهور أى بوادر للأزمة الأوكرانية مارست واشنطن ضغوطا هائلة على ألمانيا عملاق أوروبا الاقتصادى لوقف خط السيل الشمالى ١ وفرضت فى عهد دونالد ترامب عقوبات اقتصادية على الشركات العاملة فى تدشين خط السيل الشمالى٢.
وجرت مساجلات بين المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل وترامب بهذا الصدد وأصرت على تدشين الأمبوب الذى سيعزز تدعيم صناعة بلادها بالغاز الرخيص؛ ولم يخف ترامب حينها خطة بلاده لاستبدال الغاز الروسى بالغاز الأمريكى المسال.
المؤكد أن أوروبا لم تكن محظوظة بغياب ميركل عن الحكم فى اللحظة التى اندلعت فيها الأزمة الأوكرانية؛ ذلك أن المستشارة الألمانية المحنكة لم تكن لتندفع بكل هذه المراهقة السياسية وراء واشنطن لتكون مجرد جندى فى الحرب الاقتصادية الشعواء التى شرعت إدارة الرئيس الأمريكى جو بايدن فى شنها ضد روسيا.
أتصور أن ميركل كانت ستقود الاتحاد الأوروبى إلى معالجة أكثر هدوءا وعقلانية لاتسمح بمعاناة الصناعة الأوروبية ووضع اقتصاد القارة بأكمله بين أسنان أمريكا.
مايؤكد انخراط الاتحاد الأوروبى فى حرب العقوبات ضد روسيا بقلب مراهق مندفع إذا جاز التعبير قرر فى يونيو الماضى الاستغناء عن النفط الروسى تماما بحلول الخامس من ديسمبر الجارى إلا أن واشنطن كانت أكثر عقلانية وتدخلت لتعديل القرار بفرض سقف لأسعار النفط ومشتقاته حتى لا يتسبب القرار الأوروبى فى غياب إمدادات النفط الروسى من السوق العالمى مايؤدى إلى ارتفاعات هائلة فى الأسعار.
قرار الاتحاد الأوروبى بتخفيض الاعتماد على النفط الروسى لم يلق إجماعا بل إن بعض الدول التى طنطنت كثيرا بمقاطعة الطاقه الروسية استمرت فى عمليات شرائها بطرق ملتوية وغير مباشرة ولم تنخفض الصادرات الروسية من النفط سوى بـ ٤٠٠ ألف برميل يومى فقط من أصل ثمانية ملايين برميل بحسب تقارير غربية ليس فقط بفضل الأسواق الأسيوية وفى القلب منها الهند والصين وإنما أيضا بسبب استمرار عمليات شراء النفط الروسى من قبل الدول الأوروبية بل وحتى أمريكا وفقا لبعض الوكالات الغربية .
المحصلة واجهت روسيا السلوك الأوروبى المراهق بخفض صادراتها من الغاز لتشترى دول القاره العجوز الغاز المسال الأمريكى بأربعة أضعاف سعره وعندما ذهب الرئيس الفرنسى ايمانويل ماكرون إلى واشنطن يطلب من بايدن السعر العادل جاءه الرد بأن هذا السعر يتوافق مع آليات ومقتضيات السوق.
ومع ذلك تأبى أوروبا إلا أن تكرر نفس أخطائها طوال الشهور العشر الماضية لتبدو كطفل غبى وذهبت مع واشنطن مرة أخرى إلى اقرار سقف لسعر برميل النفط الروسى عند مستوى ٦٠ دولارا.
معظم المؤسسات الاقتصادية الغربية والمجلات المتخصصة وعلى رأسها الايكونومست رجحت أن يتسبب هذا القرار فى رفع سعر النفط فى السوق العالمى على خلفية تحذيرات موسكو بأنها لن تبيع النفط لمن يقر هذا السقف وأنها قد تخفض من إنتاجها.
لو أقبلت موسكو على هذه الخطوة باعتبارها تخوض حربا اقتصادية ضروسا فقد يصل معدل الخفض إلى نحو ٢ مليون و٤٠٠ ألف برميل حجم واردات أوروبا اليومية من النفط الروسى ومشتقاته مايعنى ارتفاعات هائلة سيشهدها سوق البترول العالمى ستعود حتما بالفائدة على الاقتصاد الروسى على غرار ما جرى مع الغاز.
إلى جانب حرب الطاقة التى كانت أوروبا أبرز ضحاياها فوجئت أن حليفتها التى تعتمد عليها فى مواجهة ماتصفه بالتهديد الروسى تفرض عليها حربا تجارية لاتبقى ولاتذر.
مرة أخرى ماكرون وأثناء زيارته للولايات المتحدة يطلب من حليفه بايدن معالجة قانون خفض التضخم الذى يدعم الشركات الأمريكيه أو تلك التى ستأتى من الضفة الأخرى للأطلسى ( أوروبا) هربا من أزمات الطاقه بما لايجعل ازدهار الاقتصاد الأمريكى يتحقق على حساب الاقتصاد الأوروبى.
ولم يختلف رد بايدن كثيرا عن مسألة سعر الغاز المسال حيث قال لن نعتذر عن قانون دشناه لصالح اقتصاد بلادنا.
أوروبا العاجزة ردت عبر مفوضية اتحادها المتصدع بأنها قد تلجأ الى تدشين صندوق سيادى أوروبى بنحو ٣٥٠ مليار يورو لدعم مصانعها حتى تكتسب منتجاتها ميزة تنافسيه فى مواجهة نظيراتها الأمريكية.
لكن يبقى التساؤل.. حتى فى حال نجاح هذه الخطوة إلى أى مدى تستطيع دول الاتحاد الاوروبى المضى قدما فى تقديم هذا الدعم فى ظل استمرار اعتمادها شبه الكلى على الغاز الأمريكى باهظ الكلفة وفى ظل الارتفاعات المتوقعة لأسعار النفط ليس فقط بسبب تسقيف سعر البترول الروسى وانما أيضا بسبب الزيادات المتوقعة على الطلب فى سوق البترول من قبل الصين التى شرعت بالفعل فى التخلص من سياسة الإغلاق بسبب كورونا.
أخيرا تبدو مواقف فرنسا وألمانيا أكبر قوتين فى الاتحاد الأوروبى إزاء روسيا متناقضة فبينما يؤكد ايمانويل ماكرون ضرورة الأخذ فى الاعتبار متطلبات الأمن القومى الروسى ومخاوف موسكو من توسع حلف الناتو عند هندسة مستقبل الأمن الأوروبى بعد الجلوس الى طاولة المفاوضات؛ نجد المستشار الألمانى أولاف شولتس يؤكد على ضرورة توفيق العلاقه مع واشنطن فى اطار حلف الناتو لمواجهة ما أسماه بالتهديد لروسى المحدق قد تفرض اللحظة الراهنة هذا النوع من التخبط والتناقض لكن يبقى أن مستقبل الأمن الأوروبى بما فيه العلاقة مع روسيا ليس بيد برلين أو فرنسا ولا الاتحاد الذى يضم ٢٧ دولة أوروبية ؛ وأنما واشنطن هى من سيقوم فى نهاية المطاف بهندسة الأمن القومى الأوروبى بالتنسيق مع روسيا وفق الأوراق الرابحة التى سيملكها كل طرف ومع ذلك وحتى فى حال امتلكت روسيا معظم الأوراق الرابحة بعد تحقيق كل أهدافها من العمليات العسكرية الخاصة فإن الشعوب الأوروبية هى من سيحدد مهندس أمن قارتها إذا استمرت فى تحركاتها وفرضت على حكوماتها سياسات أكثر استقلالية عن واشنطن بحيث تصبح الأخيرة مجرد حليف ند لباقى حلفائه الأوروبيين وليس فتى الكاوبوى المسيطر والمهيمن والراعى لأتباعه فى القارة العجوز.
المظاهرات الحاشدة التى تشهدها عواصم أوروبا وظهور أصوات برلمانيين وسياسيين فى فرنسا وغيرها تطالب بإنهاء العقوبات على روسيا والخروج من حلف الناتو ووقف تقديم الدعم المالى والعسكرى لأوكرانيا قد يعزز الآمال فى أن يلعب الرأى العام الأوروبي دورا حاسما فى تغيير سياسات الحكومات والاستقلال عن القرار الأمريكى على نحو يتيح للقارة العجوز أن تلعب دور رمانة الميزان.
آراء حرة
الأزمة الأوكرانية.. أوروبا تتصدع وترقص على سلم العقوبات
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق