السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

القس سهيل سعود يكتب.. النسيان المقدّس

القس سهيل سعود
القس سهيل سعود
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

النسيان المقدّس
"أنا أنا هو الماحي ذنوبك لأجل نفسي، وخطاياك لا أذكرها"
(إشعياء43: 25)

 

القس سهيل سعود
  هناك نوعان من آليات العمل في الذاكرة: الذاكرة القصيرة الأمد، والذاكرة الطويلة الأمد. فالذاكرة القصيرة الأمد تحمل قدرا قليلاً من المعلومات التي تسجلها حول أمور تحدث معنا منذ فترة قصيرة وترسلها إلى الذاكرة الطويلة الأمد التي تبقى معنا لأشهر وسنين عديدة، إلا أن كيفية انتقال المعلومات من الذاكرة القصيرة الأمد، إلى الطويلة الأمد، تبقى موضع جدل بين الباحثين. الذاكرة الطويلة الأمد تجعلنا نقوم بأمور كثيرة، دون الحاجة إلى إعادة التفكير في كل شيء نريد أن نقوم به.

اعتقد الباحثون، أن كل ما يحدث معنا محفوظ في ذاكرتنا ونستطيع إعادته إذا ما عرفنا كيفية الوصول إليه، إلا أن أبحاث القرون الأخيرة طرحت تحديا لهذه النظرية لتؤكد أن للدماغ القدرة على التقرير ليعرف ماذا عليه أن يبقي في الذاكرة وماذا عليه أن يتخلى عنه، فإنه بدلاً من أن يحفظ سجلاً بكل ما يحدث معه في الذاكرة القصيرة الأمد، فإنه ينقل فقط بعض الأحداث إلى الذاكرة الطويلة الأمد، من خلال قرار واعٍ  لتصفية ما هو الأهم والتخلص من غير المهم. يقول الإخصائيون: "إن للذاكرة الصحية الجيدة آلية عمل ذكية جدًا، فهي تقوم بترتيب الأولويات تحفظ المعلومات الأكثر أهمية"، لكن هذا لا يعني أنها تنسى الأمور الأخرى، لكن تضعها في حالة من النوم، إلى أن تأتي أحداث معينة توقظها. فالتفكير الجيد يحتاج إلى مساحة من الحرية، للتحليل والتمييز لحفظ الأمور الأكثر أهمية، ونسيان التفاصيل غير المهمة، فالذاكرة المفرطة تعزل كل إمكانية التفكير الجيد والتحليل والتمييز.

تدوم الأحداث المؤلمة الكبيرة والجارحة وقتًا أطول في الدماغ مثل خسارة أحد أفراد العائلة، أو حادثة كبيرة تجري تغييرا راديكاليا على الحياة، تنقلها الذاكرة القصيرة الأمد لتبقى وتستمر في الذاكرة الطويلة الأمد، تلك الأنواع من الجروحات الأليمة قد تدوم طول الحياة، لكن يخف وقعها مع الوقت. يقول علماء النفس، إن الأمر الذي يصنع فرقًا أساسيا في حياة الإنسان، هو مدى قدرته على نسيان الأمور الأليمة. فسعادة أو شقاء الإنسان، يتوقّف على هذا الأمر. 
 يخبرنا الكتاب المقدس، أن الله الكلّي العلم، الذي يعلّم كل تفاصيل حياتنا وسيئاتنا هو يختار أن ينسى خطايانا، كيما يمنحنا فرصة جديدة للشركة معه. يخاطبنا الله عبر فم النبي أشعياء قائلا: "أنا أنا هو الماحي ذنوبك لأجل نفسي، وخطاياك لا أذكرها" (إشعياء43: 25). فالذي يمحو خطايانا يطلب منا نحن أولاده أن نقوم بنفس الشيء معتمدين على قوة عمل نعمته. هناك ما يُسمّى "النسيان المقدس". قال أحد رجالات الله: "أن نغفر يعني أن ننسى". تشير الاختبارات البشرية إلى أن هناك أمورا من الضروري أن ننساها. فالله، في حكمته اللامتناهية، أعطانا نعمة النسيان لبعض الأمور لا سيما المؤلمة منها، كيما نستطيع إكمال حياتنا بشكل مريح. 

في كتابه "نهاية الذاكرة" يتحدث الكاتب مايسون والف، عن العلاقة بين الغفران والنسيان يقول: "إذا ما بقينا متذكّرين دائما، لكل الجروحات التي يسببها لنا الآخرون، والآلام التي تصيبنا، فإننا لن نستطيع أن نكمل حياتنا، الشفاء يبدأ من الغفران والنسيان". دعا الرسول بولس جماعة الإيمان في كنيسة فيلبي إلى نسيان كل ما هو وراء. نسيان كل الأخطاء والخطايا القديمة التي اقترفوها، كيما يستطيعوا أن يكملوا حياتهم في الإيمان، قال: "أيها الإخوة، أنا لست أحسب نفسي أني قد أدركت، ولكني أفعل شيئًا واحدًا إذ أنا نسى ما هو وراء وأمتد إلى ما هو قدام أسعى نحو الغرض لأجل جعل دعوة الله العليا في المسيح يسوع" (فيلبي3: 13-14). الله يدعونا أن ننسى الإساءات، الجراحات، الحقد، قساوة كلماتنا. علينا أن ننسى خطايانا التي نعترف بها بصدق للرب، لأنه يغفرها لنا. هذا هو النسيان المقدس إنه عمل الروح القدس فينا، فالنسيان في هذه الحالة يعيد إلينا القدرة لنحبّ الآخرين.