يوافق اليوم، 3 ديسمبر، الذكرى التاسعة لرحيل أحد آباء العامية المصرية، ابن الشرقية الذي جاء إلى القاهرة ليصير واحدا من أكبر شعرائها، وليرتفع اسمه حتى يطوف العديد من بلدان العالم. ويصير الاسم الثلاثي "أحمد فؤاد نجم"، أحد أبرز معالم الفن والأدب المصري في القرن العشرين، والذي يمتد تأثيره حتى يومنا هذا. والذي لا تزال اشعاره وكلماته تلهب المشاعر، حيث تمزج بين المأساة والكوميديا، الذي عانى في بداية حياته، ولكن يدين لها بالكثير، حيث استلهم قصائده التي وضعته في قمة تاريخ شعر العامية المصرية.
اليتيم
ولد الشاعر أحمد فؤاد نجم في 22 مايو سنة 1929، في قرية "كفر ابو نجم" بمدينة ابو حماد، محافظة الشرقية لأب يعمل بالشرطة وأم فلاحة من الشرقية، والتحق في بداية حياته بالكتاب كعادة القرى، ثم توفي والده وانتقل الي بيت خاله بالزقازيق، وبعد ذلك التحق بملجأ للأيتام، والذي قابل فيه عبد الحليم حافظ، وانتقل بعد ذلك الي منزل شقيقه، ولكنه طرده ليعود منكساً راسه الي قريته مرة اخرى.
18 عاما من السجون
رغم أن السجن يُعتبر بابا للمصائب؛ إلا أنه كان فاتحة خير على نجم، بعد أن تورط خلال عمله في السكك الحديدية مع عدد من اللصوص. عندما شاهد كبار الضباط والمديرين ينقلون المعدات وقطع الغيار إلى بيوتهم؛ وعندما اعترضهم كاشفًا ما يجري تم اتهامه بجريمة تزوير لاستمارات شراء، ما أدى إلى الحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات، قضاها بسجن قره ميدان.
وفى عام 1959 الذي شهد أولى حلقات الصدام مع السُلطة، كان نجم شاهدًا على الصدام بين السُلطة الاشتراكية، والمُمثلة في نظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وبين قوى اليسار في مصر. وهو الموقف الذي حكى عنه نجم "وفى يوم لا يغيب عن ذاكرتي أخذوني مع أربعة آخرين من العمال المتهمين بالتحريض والمشاغبة إلى قسم البوليس، وهناك ضربنا بقسوة حتى مات أحد العمال، وبعد أن أعادونا إلى المصنع طلبوا إلينا أن نوّقع إقرارًا يقول إن العامل الذي مات كان مشاغبًا، وأنه قتل في مشاجرة مع أحد زملائه".
لكن في السجن أيضا، التقى نجم الكاتب والروائي عبد الحكيم قاسم الذي كان عضدًا له، كما أن أحد ضباط السجن كان من هواة الأدب، فشجّعه على الكتابة ونسخ له قصائده على الآلة الكاتبة وأرسلها إلى وزارة الثقافة، والتي كانت تقيم آنذاك مسابقة شعرية، وفاز بها ديوانه الذي يحمل اسم «صور من الحياة في السجن» بالجائزة الأولى، وكانت مقدمة الديوان بقلم الراحلة سهير القلماوي، فأصبح العامل المفصول، وهو في السجن شاعرًا مشهورًا بعد أن نشرت وزارة الثقافة الديوان عام 1962.
كانت أطول مدة قضاها نجم في السجن ثلاث سنوات كانت أيضًا في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، والذي أصدر أوامره بسجن نجم والشيخ إمام بعد انتشار أغنيتهما «الحمد الله»، والتي هاجم فيها النظام الحاكم عقب نكسة 1967، وصدر الحكم عليه بالسجن المؤبد، ولكنهما خرجا من السجن عقب وفاة عبد الناصر.
وفي عام 1977، إبان حكم الرئيس الراحل أنور السادات تم القبض على نجم مرة أخرى، ووجهت إليه تهمة تلاوة قصيدة «بيان هام» في إحدى كليات جامعة عين شمس، وأصدر الرئيس السادات قرارًا بإحالته إلى محاكمة عسكرية، والتي أصدرت عليه حكما بالسجن لمدة عام.
وحكى الشاعر الكبير زين العابدين فؤاد ذكرياته مع نجم والراحل الشيخ إمام عيسى في السجن، فقال أن الثنائي خرجا من السجن بعد وفاة عبد الناصر في 1971، ثُم أعيد القبض عليهما بعد عقب مظاهرات الطلبة في 1972 وفي السجن هذه المرة كان نجم كتب كتب "أنا رحت القلعة وشفت ياسين"؛ كذلك تم اعتقالهم عام 1973 اعتقلنا معا مرة أخرى عندما شاركوا في مظاهرات عمال حلوان للحديد والصلب، حيث تم اتهامهم بالتحريض، ثُم أُعيد القبض عليهم جميعًا مرة أخرى في عام 1977 بتهمة التحريض أيضًا.
وكان قد جاء في نص قرار الاتهام أن نجم "دأب على كتابة القصائد المناهضة لنظام الحكم"، وقضوا داخل السجن ثمانية عشر شهرًا، ولما خرج نجم ذهب إلى جامعة عين شمس وألقى قصيدته الشهيرة "بيان هام" فتم القبض عليه مرة أخرى حسب نفس الاتهام، الذي أحاله الرئيس السادات فيما بعد إلى المحاكمة العسكرية، وأن نجم تم وضعه في زنزانة "9" الشهيرة بسجن أبو زعبل، بينما بقى زين العابدين وبقية رفاقه في السجن؛ وروى زين العابدين أنه وقتها قال لنجم" كان عندى مشكلة في المياه في بيتي بالهرم واتحلت هنا في السجن"، فرد عليه الشاعر الراحل "أنت هتفضل في السجن لغاية ما مصر تدار بالطاقة الذرية".
ثم عاد للسجن مرة أخرى عام 1981 في بيت باحثين علميين فرنسيين، اللذين عقدا مؤتمرًا صحفيًا في باريس نشرته جريدة لوموند الفرنسية أعلنا فيه أنهما تعرضا للتعذيب في سجن القلعة، وقالا إن نجم تعرض أيضًا للتعذيب في سجن طرة، بينما كان نجم قابعًا في السجن مُعلنًا الإضراب عن الطعام حتى الموت إذا لم يفرج عنه.
الشاعر المحرض
كان الكاتب الراحل صلاح عيسى واحداً ممن ساعدوا بأقلامهم في تألق أسطورة الشاعر الكبير الراحل أحمد فؤاد نجم. حيث رأى أن نجم -الذي سبقه في الرحيل- ظل حريصًا على دور "الشاعر المحرض" الذي اشتهر به.
بدا هذا واضحاً من خلال الأوراق الرسمية التي جمعها عيسى في الكتاب الذي يحمل عنوان "شاعر تكدير الأمن العام.. الملفات القضائية للشاعر أحمد فؤاد نجم- دراسة ووثائق" أن نجم كان مُحرضاً لنفسه قبل من حوله، وخاض مجهوداً لم يكن عادياً أبداً لتوثيق كل ما مر به صديقه الراحل، مستعينًا كأي مؤرخ يعشق ما يفعله بكافة المصادر الرسمية وأرشيف الصحف الذي استطاع الوصول إليه، ليأخذ القاريء في رحلة شيقة، امتزج فيها العمل الصحفي بالتأريخ لواحد من أهم شعراء العامية.
تناول عيسى في الجزء الأول من دراسته تاريخ ما يسمى بـ"الجرائم التعبيرية"، مثل الشعر والأغاني والأفلام والمسرحيات والقصص، وما تعرض له الفنانون في مصر في العصر الحديث منذ اضطهاد الشاعر بيرم التونسي، والهجوم على عميد الأدب العربي طه حسين، إلى محاولات إقصاء المخرج العالمي يوسف شاهين؛ ثم يعرض للقارئ قصة حياة أحمد فؤاد نجم غير العادية بكافة تفاصيلها الممتعة، ثم يتناول ما تعرض له نجم كلمات الشارع المعارض من مضايقات وحملات من السلطة أدت إلى التحقيق معه في عصر الرئيس الراحل أنور السادات فيما عرف بقضية "نيكسون بابا" عام 1974، وموال "الفول واللحمة" عام 1977، ويلحق بالتحقيقات حيثيات الحكم فى قضية قصيدة "بيان هام".
ذكر عيسى في تلك الدراسة أن نجم ظل متمسكًا باستقلاله كشاعر شعبي، وأنه "رفض كل محاولات المنظمات الشيوعية لضمه لعضويتها لكي يكون صوتًا لها" وهو ما تسبب في توتر العلاقات بينه وبين هذه المنظمات؛ وإلى جانب ملف الفاجومي المليء، رصد عيسى اثنتي عشرة قضية في وثائق التاريخ المصري المعاصر حتى وقت الدراسة تضم أوراقا قضائية "تتخذ من الإبداع الأدبي والفني والفكري جسمًا وحيدًا للجريمة"، حسب تعبير صلاح عيسى.
وفي حالة نجم يستند عيسى إلى الأوراق القضائية متمثلة في تحقيقات النيابة العامة مع الشاعر بسبب "ما يوصف بأن قصائده مناهضة" في أعوام 1972 و1973 و1974 و1975 و1977 والتي انتهت بتقديمه في العام الأخير إلى محاكمة عسكرية حكمت عليه بالسجن لمدة سنة لتأليف قصيدة "بيان هام" يسخر فيها من الرئيس الراحل أنور السادات؛ وينقل الكتاب من سجلات نيابة أمن الدولة العليا اعتداد نجم بنفسه في التحقيقات، إذ يقول عام 1977 للمحقق "من المعروف أنني شاعر هذا الوطن وأن شعري هو نبض هذا الشعب".
وذكر عيسى أن محاكمة نجم بسبب هذه القصيدة التي كان يقلد فيها السادات أثناء إلقائها فيضحك الحاضرين لم تستغرق أمام المحكمة العسكرية سوى أسبوع، وصدر الحكم يوم 25 مارس عام 1978 بحبسه سنة مع الشغل والنفاذ بعد أن أدين بتهمتي إهانة رئيس الجمهورية والجهر بالصياح لإثارة الفتن؛ عندها ظل نجم هاربًا من تنفيذ الحكم أكثر من ثلاث سنوات إلى أن تم القبض عليه أثناء حملة الاعتقالات الشهيرة التي قام بها الرئيس السادات ضد معارضيه، والتي طالت مثقفين وصحفيين في سبتمبر 1981.
اشتباك سينمائي
كانت علاقة الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم بالسينما علاقة متشابكة، ظهرت في فترات متقطعة في حياته؛ وكما ختم الشاعر الكبير صلاح جاهين حياته السينمائية مع يوسف شاهين، كانت بداية الفاجومي مع الرجل نفسه.
كان "بهية" هو الاسم الدرامي لمصر كما رآه نجم وشاهين في اللقاء الأول بينهما في فيلم "العصفور" عام 1972، والذى ظهر فيه الشيخ إمام، وقام بأداء دوره الفنان الراحل علي الشريف، وغلفت شريطه السينمائي أغنيته "مصر يا أمة يا بهية، وكان من المفترض أن يظهر كلا من نجم وإمام بشخصيتيهما الحقيقية في الفيلم، ولكن القبض عليهما في الوقت نفسخ حال دون تنفيذ ذلك؛ وكان الثنائي نجم وإمام أيضًا بطلا معركة رقابية خاضها أصحاب مسلسل "درب ابن برقوق" عام 1999، بسبب وجود شخصيتين يعبران عن نجم والشيخ إمام بين أبطال المسلسل، وانتهت المعركة بتصريح رقابي بشرط تغيير أسماء الأبطال؛ ولعب دور نجم الفنان مفيد عاشور، عن رواية للكاتب محمد جلال عبد القوي، وإخراج خالد بهجت.
طوال تلك السنوات توالت العروض السينمائية على نجم وتوالى رفضه لها؛ لكنه قبل طلب المخرج عادل عوض -ابن الفنان محمد عوض- المشاركة كضيف شرف في أحداث فيلم "شباب ع الهوا"، في دور جد الفنان أحمد الفيشاوي، وظهر في عدد صغير من المشاهد لم يتجاوز الأربعة أو الخمسة، أدى فيها دور شاعر شهير لكن دون التصريح باسمه، وألقى خلال الفيلم مجموعة من قصائده منها قصيدته الأبرز "كلمتين لمصر".
وقبل ثورة يناير بعامين بدأ مشروع كتابة نجم نفسه سينمائيًا، عبر فيلم "الفاجومي" الذي كتبه وأخرجه عصام الشماع وعرض للجمهور عام 2011، واعتمد الشماع في كتابته على يوميات كتبها نجم تحت العنوان نفسه، وأدى دوره الفنان خالد الصاوي ومعه صلاح عبد الله في دور الشيخ إمام، وكندة علوش في دور الكاتبة الصحفية صافيناز كاظم، أولى زوجات نجم والتي انجبت له ابنته الكبرى نوارة، ولعبت فرح يوسف دور المغنية عزة بلبع، وشاركهم البطولة جيهان فاضل ومحمود قابيل وتامر هجرس وزكى فطين عبد الوهاب.
وآخر ما ظهر فيه نجم سينمائيًا كان الفيلم التسجيلي القصير "أبو النجوم"، والذي كان عرضه الأول في بانوراما الفيلم الأوروبي كتكريم له بعد يومين من رحيله عن عالمنا، والفيلم مدته سبع دقائق من إخراج أحمد المناويشي؛ وتناول نشأته الريفية وانحياز أشعاره للمضطهدين، وتجربة ثنائي أغنيات المقاومة مع الشيخ إمام عيسى، وكيف حفظ ثلاثة أجيال أشعاره التي تحول الكثير منها إلى أغنيات.
أبو البنات
بدورها، حياة نجم الاجتماعية والشخصية لم تسلم من التغيرات العديدة، فتزوج عِدة مرات، وله ثلاثة بنات هن عفاف، زينب، ونوارة؛ وكان زواجه الأول من فاطمة منصور ثم من الفنانة عزة بلبع، والكاتبة صافيناز كاظم، وممثلة المسرح الجزائرية صونيا ميكيو، وكانت زوجته الأخيرة هي السيدة أميمة عبد الوهاب وأنجب منها زينب.
الرحيل
حصد نجم عدة جوائز منها اختياره عام 2007 سفيرًا لصندوق مكافحة الفقر التابع للأم المتحدة، وبجائزة الأمير كلاوس الهولندية عام 2013، وحصل على المركز الأول في استفتاء وكالة أنباء الشعر العربي عن قصيدته «جيفارا مات».
رحل الفاجومي عن عالمنا في يوم الثلاثاء الثالث من ديسمبر 2013 عن عمر ناهز أربعة وثمانين عامًا، بعد عودته مباشرة من العاصمة الأردنية عمّان، التي أحيا فيها آخر أمسياته الشعرية برفقة فرقة الحنونة بمناسبة ذكرى اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني. وخرج جثمانه من مسجد الحسين. وفي 19 ديسمبر 2013 وبعد وفاته منح وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى.