تحتفل الكنيسة الكاثوليكية اليوم بالقديس رومانس الأنطاكي الشماس الشهيد.
ولد رومانس في قيصرية فلسطين في نحو سنة 275، وكان من أسرة شريفة عريقة في الحسب والنسب. تثقف بالعلوم وارتقى في الدرجات الكنسية حتى صار شماساً إنجيلياً في كنيسة قيصرية فلسطين.
في أواخر القرن الثالث للمسيح. وكان شديد الغيرة على بث روح الإنجيل في قلوب المؤمنين وغير المؤمنين من اليهود والوثنيين. وترك بلدته وحلّ في انطاكية.
فاندلعت موجة جديدة من الاضطهاد على المسيحيين في مطلع القرن الرابع، وأخذ إسكلبياذس الحاكم العام على بلاد الشرق يعيث فساداً في كنيسة الله، ويزجّ المؤمنين في السجون، ويميت شرّ ميتة من لا يخضع لأوامر الملوك، دبّت الحمية في قلب الشمّاس رومانس، وأخذ يطوف على المسيحيين في بيوتهم وفي حوانيت تجارتهم، يشجّعهم ويقوّي عزائمهم، ويثبّتهم في الإيمان.
فمثل تلك الشجاعة والحمّية لم تكن لتبقى مكتومة عن أعين الرقباء. فقبضوا عليه وقادوه أمام الحاكم العام، وأخبروه بأمره.
فاستشاط هذا غضباً عليه، وأخذ في توبيخه على عصيانه أوامر الملوك، ولا سيّما حمله الناس على العصيان. فلمّا رأى رومانس أن المعركة قد بدأت، رام أن يكون إستشهاده موعظة للمسيحيين، وخاتمةً رسولية لهم. فتشجّع، ووطن النفس على الجهاد بشهامةٍ، ليكون عبرةً صالحة للمؤمنين في محنتهم وشدائدهم.
فردّ رومانس على توبيخ أسكلبياذس بكل بسالةٍ، وقال أنّه يفتخر بأن يعصي أوامر الملوك الجائرة، وبأن يحمل المسيحيين على عصيانها، لأن الله أحق من البشر بأن يُطاع.
وكان ديوان الحاكم مكتظّاً بالحضور من المسيحيين المتسترين، ومن الوثنيين. فسرت بين الصفوف موجة إعجاب وإكبار لتلك البسالة الرسولية.
أمّا الحاكم فدهش لتلك الجرأة، وعدّها وقاحة. وأمر في الحال بأن يمزّقوا جسده بأمشاط من حديد. فسالت دماؤه أمام الجميع. ثم أمر أيضاً به، فجلدوه بعنف بمجالد ذات فروع متعدّدة، في رأسها قطع من الرصاص. فكان يحتمل تلك الآلام بصبر عجيب، ويشيد بإسم المسيح أمام الجماهير المحتشدة الواقفة تتفرّج.
فكاد الحاكم يجن من شدّة الغيظ، وأمر الجلاّدين بأن يشدّدوا في تعذيب الشمّاس رومانس. فسلخوا جلد خاصرتيه، وهشموا الصدر الذي جسر على العزّة الملكية بمثل ذلك التجديف.
فلم يعبأ الشهيد بتلك الآلام، بل تابع كلامه مبينيّاً أن الصنم لا شيء، وأن الوثنيّة حماقة، وأن المسيح هو رب المجد، وأن إضطهاد ذيوكلسيانس للمسيحية هو ظلم وإستبداد.
ثم التفت إلى الحاكم وقال له: عليك بأي طفل صغير تشاء، فسأله في حقيقة الله يحبّك بأن الله واحد، ولا يمكن أن يكون إله سواه. فالتفت أسكلبياذس إلى الحضور، فرأى ولداً صغيراً ممسّكاً بيد أمّه، فأدناه إليه. فعرفه رومانس، وكان ولداً مسّيحيّاً، وكان يُدعى بارولا. فقال له رومانس، أجبنا، أيها الطفل، الله كم واحد؟- فأجاب الطفل بلا تردّد: الله واحد فقط. فقال رومانس: من هو الله؟ فأجاب الولد على الفور: الله روح أزلي كلّي الكمال، خالق السماء والأرض، سيّد ورب الكل.
فخجل الحاكم وغضب وانتهر الولد وقال له: ومن علّمك أن تقول هذا؟ قال: أمّي علّمتني، والله هو الذي علّم أمّي. فأدنى الحاكم أم الطفل إليه، فدنت بكل إحتشام وبغير تهيب. فوبّخها على إفساد ولدها وإبعادها عن عبادة الآلهة. وأمر الجند بضرب الولد أمام عينيها قصاصاً لها. فأخذت تلك الأم القديسة تشجّع طفلها على احتمال العذاب، وتعده بالسماء التي ينعم فيها الأولاد المكّابيون وأطفال بيت لحم. حينئذٍ أمر الحاكم بإحراق رومانس بالنار، وبضرب عنق الولد. فسرى بين الجموع همس كلّه سخط وتذمّر وإستياء.
ورافقت الأم ولدها إلى مكان الإعدام، وهي تذكي في قلبه شعلة الإيمان والحماسة، إلى أن ضرب الجلاّد عنقه، فطارت نفسه حمامة بيضاء إلى أعالي السماء.
فلفّت تلك الأم المسيحيّة الجبّارة جثّة ولدها في أزارها، وذهبت فدفنتها في دارها ذخيرةً ثمينةً وكانت كل صباح وكل مساء تجثو أمام ذلك الضريح وتشكر لله ما أولاها من شرف أثيل ونِعَم لا يقابلها شكر ولا ثناء. هكذا تكون البطولة عند النساء المسيحيّات الحقيقيّات.
أمّا رومانس فأنّهم لم يوقدوا النيران ويزجّوه فيها حتى أخذت السماء تكفهرّ بالسحب وتجود بأمطار بل بِسيول أطفأت النيران وطردت الناس من ذلك المكان. فحار الحاكم في أمره. فأمر بأن يقطعوا له لسانه، وبأن يشدّدوا عليه في سجنه. فقطعوا له لسانه، وأثقلوا له وثاقه، فكان رغم ذلك يمجّد الله بصوتٍ عالٍ يسمعه سائر السجناء.
أخيراً ضجر الحاكم من ذلك المسيحي الذي لم تنجح فيه الحيَل، ولم تثنِ عزمه الآلام، ولم تظفر بعناده الوعود ولا المواعيد. فانتهر الجلاّدين وقال لهم أنّه يريد التخلّص منه. فتألّبوا عليه وخنقوه في سجنه. وهكذا أنهى حياته بالإستشهاد المجيد، ونال إكليل الظفر في الدهر الأبدي السعيد، وكان بالحقيقة رسولاً في حياته وفي مماته.