كنت أتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، ثم ظهر أمامى منشور يحوي صورة دعائية لمسلسل جديد مزمع عرضه، وهو مسلسل الضاحك الباكي، الذي يؤرخ لرائد من رواد المسرح والدراما المصرية نجيب الريحانى (1889-1949م)، وتحمست جدًا لرؤيته ولكن خاب أملى حين شاهدت أولى حلقاته لأسباب كثيرة لكن ما شد انتباهي حقًا هو مدى الإهمال في تناول الدراما المصرية مؤخرًا للشخصيات المسيحية (كله عند العرب صابون) مثل ما يقول المثل المصري، "وحياة المسيح الحى …. الرب يباركك … الرب معاك …. جرجس متجوز تريز" قوالب فرضتها الدراما المصرية على الشخصية المسيحية تجعلها غريبة حتى على اذن المسيحيين المصريين ليظل السؤال الأكبر لديهم من هو ذاك المسيحي الذي يتكلم بتلك الطريقة المضحكة؟!!!.
للأقباط مع الدراما المصرية حكاية قديمة بالرغم من أن أقدم فيلم مصري بالكامل صامت في عام 1923م يحمل اسم قبطي وهو برسوم يبحث عن وظيفة ليكون بذلك رائد الواقعية المصرية حيث يجسد معاناة شاب قبطي فقير وصديقه المسلم المعمم في إيجاد فرصة عمل عقب ثورة 1919م ومن الطريف أن من قام بدور برسوم هو ممثل مسلم عادل حميد أما من قام بدور المسلم المعمم هو الرائد القبطي الأول في صناعة السينما المصرية بشارة يواقيم (واكيم) ويأتى بعده فيلم حسن ومرقص وكوهين 1954م وهو عن مسرحية بنفس الاسم لمبدعنا نجيب الريحانى بشراكة مع شريك عمره بديع خيري أطلقت في عام 1941م، يحكى عن شراكة بين 3 اشخاص حسن التاجر ابن البلد المسلم ومرقص القبطي القادم من عاصمة الأقباط الصعيدية مديرية (محافظة) أسيوط والخواجة كوهين اليهودى، يصور الفيلم مرقص ويؤديه محمد كمال المصري في صورة القبطي المحنك والمخضرم في الحسابات وذو العقلية السامة التي لا تغيب عنها أي تفصيلة يرتدى نظارته وطربوشه ويتدلى من جيب بذلته سلسلة ساعته الذهبية وبها الصليب ليضيف لنفسه مظهر أثرياء التجار القبط القادمين من الصعيد ويسكن في حارات الأقباط في مصر عتيقة محطة مارجرجس بجانب الكنائس القديمة كما يحب أن يفعل أقباط الصعيد حين يهاجرون للقاهرة أن يسكنوا بجوار الكنائس.
ودون ما ذكرنا بالأعلى نجد أن من الغريب أن فترة افلام الابيض والاسود يكاد ينعدم فيها ذكر الأقباط وكأنهم غير موجودين فإن افلام اسماعيل ياسين تعج باليونانيين والطليان ولكنها لا تذكر الأقباط مثلًا.
وأعاد مسلسل الضاحك الباكي الصورة الهزلية للأقباط التي تتبناها الدراما المصرية منذ التسعينات، فإنك ترى الفنانة فردوس عبد الحميد في دور أم نجيب الريحانى القبطية وهي تصلي بلغة عربية كخريجة ازهر لا كسيدة قبطية بسيطة، وتلك ليست السقطة الوحيدة فالسيدة أم نجيب القبطية ترشم ذاتها بعلامة الصليب عكس ما يرشم القبط أنفسهم، الاقباط والكاثوليك بمختلف كنائسهم (ما عدا كنيسة الروم الكاثوليك) يقومون برشم الصليب باليد اليمنى بداية من الجبهة نزولًا للبطن ثم من الكتف الأيسر للكتف الأيمن
لكن العائلة الشرقية البيزنطية الأرثوذكسية يرسمون الصليب عكس الأقباط الأرثوذكس والكاثوليك باليد اليمنى لكن يتغير اتجاه الكتف بداية من الجبهة نزولًا للبطن ثم من الكتف الأيمن للكتف الأيسر (وهو الرشم الذي قامت به الفنانة)
لكن من هو نجيب الريحانى هو نجيب إلياس ريحانة الشهير باسم نجيب الريحاني ممثل وفنان مصري من أصل عراقى مسيحى الديانة ولد عام 1889م لأب عراقي موصلي (آي من منطقة الموصل العراقية)مسيحي الديانة كلداني كاثوليكي المذهب وأم قبطية مسيحية وابتدأ مسيرته الفنية مبكرًا مع عزيز عيد في 1907م ولكنه ازدهر بعد عمله كموظف بسيط في مصنع للسكر بصعيد مصر ووهب حياته للمسرح وأصبح رائدًا من رواد المسرح المصري والكوميديا الواقعية جاء تأسيس فرقة الريحاني التي عمل بها مؤلفًا ومخرجًا مسرحيًا وبطلًا لها قبل أن يتحول إلى كاتب ومخرج وممثل سينمائي، أيضًا فيما بعد، عند ظهور السينما. قام الريحاني بتأليف 33 مسرحية،واعتزل الريحاني المسرح عام 1946 ليتفرغ للسينما تاركًا رصيدًا عذبًا من المسرحيات التي تحول جزء كبير منها إلى أفلام منها، وفي السينما ترك لنا رصيد 10 افلام أولها عام 1931م فيلم صاحب السعادة كشكش بيه إلى أن توفى بمرض التيفود أثناء تصوير فيلمه الأخير غزل البنات في 1949م وكان لِنبأ وفاة الريحاني وقعٌ أليم في أنحاء مصر، وُصف بأنَّهُ «لا يقل في أثره عن وقع كارثة قوميَّة»، واشتركت الأُلوف في تشييع جنازته، ورثاه الملك فاروق الأوَّل وعميد الأدب العربي الدُكتور طٰه حُسين بِالإضافة إلى ذلك تم عمل فيلم لِجنازة الريحاني، ومُدَّته 18 دقيقة، والذي كان من مُقتنيات قصر عابدين، وقد تم تصويره بناءًا على طلب من الملك فاروق لِعرضه على ملوك أوروپَّا، نظرًا لِكون جنازة نجيب الريحاني من أكبر الجنازات التي شُيعت في تاريخ مصر المعاصر، حيث سار في جنازة الريحاني قرابة 5 ملايين مصري وأجنبي من كُل الأطياف والشخصيَّات والمناصب.
لكن من هم الكلدان الذي يعد الريحانى من سلالتهم؟
العراق الغنى جدًا باختلاف اديانه ومعتقداته ومذاهبه تأثرت المسيحية فيه بهذا التنوع فمسيحيو العراق وقت ازدهارهم كانوا ينقسمون في التبعية لأربعة عشر طائفة معترف بها تمارس شعائرها داخل أراضي العراق،وفقًا لتقرير نشره مكتب دعم اللجوء الأوروبي عام 2019 كان حوالي 67% من مجمل المسيحيين العراقيين أعضاء في الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية، وكان حوالي 20% أعضاء في كنيسة المشرق الآشورية، أمّا النسبة الباقية فكانت تتشكل من السريان الأرثوذكس، والسريان الكاثوليك، والأرمن الكاثوليك، والأرمن الأرثوذكس والبروتستانت وطوائف مسيحيَّة أخرى. وبحسب التقرير هناك ما يقرب من 3،000 إنجيلي في إقليم كوردستان العراق. أما الطوائف المسيحية في العراق هي الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية؛ وأتباعها هم أكبر الطوائف المسيحية عددًا في العراق، الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، الكنيسة السريانية الكاثوليكية، الكنيسة الرسولية الأرمنية الأرثوذكسية وهم غالبية أرمن العراق، الكنيسة الأرمنية الكاثوليكية، كنيسة المشرق القديمة، كنيسة المشرق الآشورية، كنيسة الروم الكاثوليك، كنيسة الروم الأرثوذكس، طائفة اللاتين الكاثوليك، الطائفة البروتستانتية الإنجيلية الوطنية، الطائفة الإنجيلية البروتستانتية الآشورية، طائفة الأدفنتست السبتيين (وبعض الكنائس لا تعتبر الأدفنتست مسيحيين)، طائفة الأقباط الأرثوذكس (وهم من الجالية المصرية في العراق).
وبعيدًا عن هجرة الأرمن والأقباط التي أدت لوجود كنائسهم في العراق الحديث، المسيحية في العراق ضاربة في عمق القدم لكن بعد عام 420م انقسم مسيحيو العراق لثلاث مذاهب مسيحية المذهب النسطوري والمذهب السريانى اللاخلقيدونى (مذهب اليعاقبة) ومذهب الروم الأرثوذكس (مذهب الملكانية).
وعن تلك المذاهب الثلاث تفرع عشرة طوائف من أصل أربعة عشر طائفة، من المذهب النسطوري آي اتباع نسطوريوس بطريرك القسطنطينية تفرع حاليًا 4 طوائف هم كنيسة المشرق الأشورية وانشق منها في عام 1552 م مجموعة من المطارنة حينما رفضت وبشدة قبول التسلسل الوراثي لوصول صبي غير مدرب إلى منصب البطريركية فقد كان وريث البطريرك الوحيد. وانتخبوا مار شمعون الثامن يوحنان سولاقا -وهو كان يشغل منصب رئيس دير الربان هرمزد- بطريركا بدلا عن بطريركهم الصغير مار شمعون برماما، توجه سولاقا إلى روما برفقة سبعون رجلا حتى وصل مدينة القدس ومنها انطلق في رحلته إلى عاصمة الكثلكة لينال رسامة بطريركية شرعية من البابا، وبعد مباحثات طويلة مع الفاتيكان تعهد بالانضمام للكنيسة الرومانية الكاثوليكية قرر بابا روما والكنيسة الكاثوليكية يوليوس الثالث في تاريخ 20/03/1552 م قبول النساطرة المنشقين وإعلان يوحنان سولاقا بطريركا،ومن هنا تأسست الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية ولكن في عام 1662م كسر البطريرك الكلداني شركته مع كنيسة روما الكاثوليكية واضمحلت اهمية الكنيسة الكلدانية حتى عام 1830م عندما قام البابا بيوس الثامن بالتصديق والتأكيد على تسمية مار يوحنا الثامن هرمز رئيسا للكنيسة الكلدانية الكاثوليكية حاملا لقب بطريرك بابل للكلدان. وازداد عدد الكلدان في مقابل اضمحلال عدد المشرقيين النساطرة المعروفين بإسم الكنيسة الأشورية بل على الأكثر انشق عن الأشوريين بسبب خلافات إدارية جزء وكونوا كيان يعرف بإسم كنيسة المشرق القديمة وقبل كنيسة المشرق القديمة انشق عدد من الأتباع تحت تأثير التبشير البروتستانتي وكونوا الطائفة المشيخية الإنجيلية الأشورية البروتستانتية.
بسبب اضطهاد الدولة العثمانية للعرب وغير المسلمين اضطر كثير من العراقيين للهجرة وبعضهم هاجر لتحسين دخله إلى أرض الكنانة مصر وتكونت نواة أول جالية كلدانية كاثوليكية في مصر بعد 1880م ومن مهاجري الكلدان كان شاب وهو إلياس ريحانة تزوج من فتاة قبطية تدعى لطيفة وأنجب منها نجيب والذي عرف فيما بعد بنجيب الريحانى، وصل عدد الأسر الكلدانية في مصر ل 150 اسرة وقاموا ببناء أول كنيسة لهم في حي الفجالة بالقاهرة على اسم القديس المصري أنطونيوس الكبير أب الرهبان تأسست سنة 1892 على عهد مثلث الرحمات البطريرك مار ايليا عبو اليونان بطريرك بابل على الكلدان وتم تعيين الأرشدياقون بطرس عابد ليكون أول نائب بطريركيًا وراعيًا لأول كنيسة كلدانية في مصر حيث تم حفر الأساسات فى أرض هي هبة من السيدة هيلانة ابنة إبراهيم الموصلى الكلدانية أرملة المرحوم انطون بك يوسف عبد المسيح الكلداني البغدادي، وحسب اللوحة الرخامية المثبتة على مدخل الكنيسة منقوش عام 1896م لكن حسب ما ذكر توفيق حبيب في كتابه الفجالة قديمًا وحديثًا أنجزت في 1903م.
وكان أنطون بك البغدادي ثريًا جدًا وتوفى دون نسل وراح الكل يتنازع على ميراث المرحوم حسب وصف اسحق سكماني في كتابه عن رحلته ما بين العراق وتركيا وسوريا ومصر.
وخلف الأرشدياقون (آي رئيس الشمامسة وهي رتبة كهنوتية في كنيسة المشرق) بطرس عابد الخوري يوحنا طواف في وكالة ونيابة البطريركية الكلدانية الكاثوليكية وهو من عمد وثبت (وهو طقس اعتناق الشخص للمسيحية حسب المذهب الكاثوليكي) نجيب الريحاني في 1890م وذكر كوكيل للبطريرك الكلداني في مصر حسب السالنامة العثمانية لعام 1895م.
تعاقب النواب لبطريركية الكلدان في مصر وازداد عدد الكلدان في مصر حتى شيدوا ثانى كنيسة لهم في سنة 1950م عندما تضاعف العدد إلى نحو 1200 شخص (نحو 600 أسرة) بنى لهم الأسقف عمانوئيل النائب البطريركى للكلدان الكاثوليك كنيسة سانت فاتيما في مصر الجديدة التي تدَّشنت في 13 مايو سنة 1953م، وانتقل مقر البطريركية من الفجالة إلى هذه الكنيسة، وفي 1993م منح بولس الثاني بابا روما لقب "بازيليك" للكنيسة. وفي 23 ابريل سنة 1980م تحوَّلت النيابة البطريركية في القاهرة إلى أيبارشية للكلدان الكاثوليك ونُصّب عليها المطران أفرام بيديه من سنة 1980 حتى 1984 م. ثم المطران يوسف صراف، وهو مصري من مواليد القاهرة ظل في منصبه حتى آخر عام 2009م ولم يرسم آي مطران آخر على الإيبارشية لكن كان يرعاها خور اسقف (آي اسقف القرى أو مساعد المطران وهي رتبة كنسية مستعملة في الكنائس المسيحية الشرقية) وحاليًا هي تحت رعاية الأب بولس ساتي المدبر البطريركى للكلدان في مصر.
منذ أكثر من 150 عامًا احتضنت مصر كل العالم باختلافاته العرقيه الواسعة والدينية والمذهبية وكانت أرض كوزموبوليتان (متعددة الأعراق) منفتحة ومرحبة مما جعل أحد أبناء العراقيين المهاجرين لمصر والمولود في القاهرة يقف في حفل تأبين سيد درويش ليعلن فخره بقوميته المصرية… نعم انه نجيب الريحاني.