صدر حديثًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب كتاب “إعــرف أهلك .. دراسات أنثروبولوجية في الثقافات الأفريقية" للدكتور محمد أمين عبد الصمد
وجاء في مقدمة الكتاب " تُعد الثقافة الشعبية هي الوجه الحقيقي المعبر عن الشعب أو أي جماعة بشرية بعينها، وهو أسلوب الحياة التقليدي الذي يمارسه الفرد وجماعته ويصيغون حياتهم تبعاً له ، ويرون به واقعهم وعالمهم الميتافيزيقي، ولا يستطيع باحث وصف ثقافة شعبية لمجموعات متنوعة الأعراق ، مختلفة البيئات بأنها ثقافة شعبية واحدة ، بل تتنوع وتتعدد أشكال الحياة التقليدية.
ويضيف الكتاب:"وترتبط دراسات الأنثروبولوجيا الأفريقية قديماً بسمعة ليست جيدة ترجع إلى الفترة الاستعمارية التي واكبت توظيف الأنثروبولوجيا الثقافية ( ومن مكوناتها الفولكلور طبقاً لبعض المدارس ) لدراسة المجتمعات الأفريقية للسيطرة عليها واستغلال مقدراتها إلى أقصى حد, ونجد العديد من الأسماء التي ترتبط بهذا التوجه بشكل ما مثل: سليجمان وإيفانز بريتشارد ومالينوفسكي ".
وكانت عمليات الجمع والدراسة لثقافة الشعوب الأفريقية محاولة لتأكيد صورة نمطية تربط بين الشعوب الأفريقية وصفة ومفهوم ( البدائية ) مما يوجد مبرراً ـ بل واجباً أخلاقياً ـ على العالم المتقدم ( أوروبا ) للأخذ بيد تلك الشعوب لإلحاقها بركب الحضارة الإنسانية ، متجاهلين تماماً أن وسط تلك الشعوب نشأت ممالك ودول كانت الأقوى والأكثر ازدهارا ورقياً من أغلب الكيانات السياسية في أوروبا ؟! وحوًل هؤلاء حمايتهم المزعومة ووصايتهم إلى حقب من السلب والنهب لمقدرات القارة بل وخطف واستعباد أبنائها واستغلالهم في أشق وأقسى الأعمال في إعمار العالم الجديد( أمريكا), وكانت لهم مبرراتهم التي تدخل في إطار مفهوم التراتب العرقي وحق استغلال المختلف دينياً وثقافياً .
وأكد الدكتور محمد أمين عبد الصمد خلال مقدمته، أن الفولكلور قد ارتبط في ذهن الكثير من الأفارقة بوصمة البدائية وارتبطت الأنثروبولوجيا بشقيها الاجتماعي والثقافي بوصفها علماً للسيطرة عليه وعلى أجداده ، كما أنه العلم الذي استعبد أجداده لذا كان نداء بعض الأنثروبولوجيين الأفارقة بموت الانثروبولوجيا . ودعم هذا التصور الوسائط الفنية كالسينما والمسلسلات . وكذلك البرامج والتقارير التي لم تر في أفريقيا سوى مجموعة من العراة حاملي الحراب والأسهم , والجياع دائماً لي لحم حتى ولو بشري , كما أنهم الضالين الذين يعبدون أرواح الأسلاف والحجارة !.
وساد اتجاه آخر لدى بعض المثقفين الأفارقة بعد استقلال دولهم وتخلصهم من الاحتلال للاهتمام بالفولكلور بحثاً عن هوية لتلك الكيانات السياسية الوليدة خاصة وأن التقسيمات السياسية راعت الموارد لصالح المحتل ولم تراعِ التوزيع البشري والقرابي ، بل كانت الحدود السياسية أحياناً متعسفة لصالح موارد طبيعية معينة وضد الأخرى مثل مناطق البترول ومناجم الماس وغيرها من الكنوز الطبيعية .
وكانت رؤية المثقفين الأفارقة أن الفولكلور وبما يمثله من ثقافة الشعب أو المجموع أداة لجمع الأفراد وتحفيز توحدهم.
ولم يناقش الفولكلوريون الأوروبيون – ومن حذا حذوهم - قوانين الالتقاء الثقافي لمجتمعات أفريقيا وشعوبها , والكشف عن عمليات التثاقف وأثرها , وقصروها على مجتمعاتهم فقط, مع الإقرار بوجود ثقافات أصيلة تم التفاعل معها , ومجتمعات تاريخية تم التبادل معها , ومن قوانين الالتقاء الثقافي الجديرة باختبارها على الثقافة الأفريقية:
1- تقبل الخصائص الفردية للثقافة الأجنبية أكثر من الثقافة في مجموعها , ومعنى هذا أن القول أن الثقافة قد لا تقبل بعض أجزائها .
2- قوة نفاذ العناصر الثقافية تكون عكس القيمة , أي أن العناصر الثقافية البسيطة أكثر وأسرع نفاذاً من العناصر العميقة .
3- قبول عنصر من ثقافة أجنبية سيجر وراءه سائرها , فالمسألة تبدأ بتقبل الصناعات وألوان الحياة الاجتماعية , ثم ما يلبث أبناء المجتمع أن يتعمقوا في هذه الثقافات وفي فهمها والتفاعل معها .
4- قد يمثل تبني الثقافة لعنصر ثقافي واحد من الثقافة الوافدة إلى اضطراب وإزعاج وصعوبة في الهضم، وهو ما يدعم تبني أجزاء كاملة من الثقافة .
من أخطاء الدراسات الفولكلورية الأوروبية لأفريقيا وثقافاتها :
من أخطاء النظرة الأوروبية في دراسة الثقافة الأفريقية – وأظنها متعمدة- إسقاط مراحل كاملة من التاريخ الاجتماعي للشعوب الأفريقية , ومحاولة الإدعاء بانتفاء وجود الكيان السياسي المسمى (دولة) والذي يتجاوز وحدة القبيلة أو العشيرة وثقافتها الجزئية , ويصرون على عدم وجود منتج ثقافي جماعي تاريخي لتلك الشعوب , ومن نتيجة وجهة نظرهم تلك تم التركيز على شفاهية الثقافات الأفريقية , تأكيداً لعدم تراكميتها وتاريخيتها .
كما حرص الفولكلوريون الغربيون على تأكيد الكثرة اللغوية في أفريقيا , والإفراط اللغوي , تأكيداً لعدم التواصل بين الثقافات الأفريقية , حتى أنهم شبهوها بـ (برج بابل ) !!
وهي فرية أخرى لإسقاط فترات وجهود شعوب بذاتها , ونفي حضورها الثقافي في تاريخ أفريقيا.
ونجح الغاصب الأوروبي - سائراً على خطى الأنثروبولوجي – عن طريق مؤسساته التعليمية والدينية التي بثها في الأراضي الأفريقية في فرض لغته، وقتل الكثير من اللغات الوطنية الأفريقية، كما أن أغلب دارسيه استبعدوا ما يمت إلى تلك اللغات وثقافاتها بصلة , وأسقطوها من الجمع والدراسة , والغريب هو فقد الكثير من المخطوطات الأفريقية بلغاتها الأصلية , تلفاً أو سلباً , ويحضرني الآن مشهد حديث جداً شاهده أغلبكم على شاشات الفضائيات , وهو اجتياح تنظيم القاعدة في شمال أفريقيا لمنطقة الأزواد في شمال مالي , وحرقهم لكل المخطوطات العربية القديمة , وإتلافهم لأي أثر ثقافي أو حضاري عربي , مثل المساجد الأثرية , والأضرحة , والمكتبات المرتبطة بها.
وقد يكون مما سبق ومما قدمته الأنثروبولوجيا الكولينالية لأفريقيا دافعاً للكثير من السياسيين المناضلين الأفارقة ممن تولوا السلطة في بلادهم بعد تحررها من المحتل الغربي , إلى رفض إقامة مؤسسات أو أقسام علمية للأنثروبولوجيا , واعتبروها باباً للتجزئة والتفتيت، وإزكاء روح العنصرية، ودعموا المؤسسات ذات المناهج التنموية السوسيولوجية , ومن هؤلاء الزعماء آباء حركة التحرر في أفريقيا : جومو كنياتا , نكروما , بوسيا ..وغيرهم.
وتؤكد الدراسة أن الثقافة الأفريقية لم تنعزل يوماً ولم يُتح لها الإنفراد بذاتها . وأن بعض دعاة الانغلاق و(الانجاز المنغلق المنفرد ) غير مصيبين، إذ أن الحقيقة الجغرافية والتاريخية تقول أن أفريقيا لم تُوجد إطلاقاً بمعزل عن التأثيرات الجغرافية والتاريخية التي جعلتها تتفاعل مع ما حولها , بل كان موقعها الجغرافي سبباً في تفاعل حضاري كان ميدانه أرضها فهي إحدى أهم قارات العالم القديم (مع أسيا وأوروبا) , كما أنها منطقة تفاعل حي وثري لكثرة تعاملاتها التجارية , والتنقلات البشرية منها وإليها , فجمعت المتناقضات والأضداد , وصهرتها في بوتقتها , فقدمت سبيكتها الثقافية , التي لا تخلو من رواسب , تعكسها المماحكات التي تتولد بين فترة وأخرى بين شعوبها وجماعاتها , وحضور مفهوم الأغلبية والأقلية , ومفهوم العصبية وغيرها من المفاهيم التي تقوى وتشتد في ظروف ضعف , وتختفي وتضمر في أوقات قوة المجتمع.
والواقع التاريخي والاجتماعي يؤكد الحضور القوي وتأثير الدوائر الحضارية التي تحيا أفريقيا وسطها , تحتك بها وتتفاعل معها في إطار من عمليات التثاقف Acculturation) ( والاتصال الثقافي (Culture Contact) والذي تتبادل فيه ثقافتان التأثير , سواء بشكل محدود أو بشكل شامل بحيث تتداخل ثقافتان مختلفتان كل منهما عن الأخرى , فينتج عن هذا حتماً تغير في البناء العام للثقافة واتجاهات المجتمع والأفراد.
وأوردت الدراسة نموذجاً لثقافة إحدى القبائل الأفريقية الشهيرة وهي قبيلة ( الدنكا ), والتي تمثل قطاعاً ثقافياً كبيراً , هو قطاع ( مركب الماشية )، والذي يمتد من شرق القارة إلى غربها متجاوزاً الحدود السياسية للدول وتعدد والقبائل , وبحثها عن التمايز .ومن القراءة المـانية لثقافة هذا المركب العريض نستطيع استخلاص أربع صفات أساسية يتصف بها تراث مجتمعات المنطقة المشتركة وهي :
1- مجموعة من الخصائص العامة الشاملة التي تميزها عن مجتمعات المناطق الأخرى.
2- روابط بين الثقافات الفرعية المنتشرة في هذه الأقاليم والتي تشكل دليلاً على تعرض هذا التراث لنفس المؤثرات العامة و التيارات الثقافية.
3- تقارب الحدود المكانية والزمانية .
4- تماثل التغير الثقافي الذي يحدث أثناء الفترات الزمانية وداخل المنطقة المحددة ، وهو الذي قد يتطابق في بعض الأحيان.
وفي كتاب “إعرف أهلك دراسات انثروبولوجية للثقافات الأفريقية” في الجزء الأول منه مشروع هو محاولة للتعريف بالثقافات الأفريقية ودوائر تفاعلها وإحتكاكاتها, وتاريخها الثقافي, عن قناعة تامة مني بانتماء مصر لدائرة الثقافات الأفريقية مثلما تنتمي وتتقاطع فيها دوائر ثقافية متعددة ومتنوعة، وتعمدت تنويع النطاقات الجغرافية الدراسية لموضوعات الكتاب.
ويحوي هذا الكتاب عدة فصول في موضوعه وهي :
1- الحلف الهلالي والتأثير الثقافي والإثني في الشمال الأفريقي (رؤية أنثروبولوجية للتاريخين الرسمي والشعبي)
2- تأثير الثقافة العمانية على منطقة شرق أفريقيا( زنجبار نموذجاً)
3- القيم في الأمثال الشعبية الهوساوية (دراسة أنثروبولوجية ثقافية)
4- دور الفيس بوك في انتشار المأثور الشعبي القولي بين الشباب (دراسة وصفية في مجتمع شرق ليبيا )
5- الأدب العربي السنغالي (قراءة أولية)
6- قبــائل جنــوب الســودان (دراسة إثنوجرافية)